الفاء في قوله: «فتلقى» عاطفة لهذه الجملة على ما قبلها، و «تلقى» «تفعل» من اللِّقاء بمعنى المجرد.
وله معانٍ أخر: مطاوعة «فعل» نحو: «كسرته فتكسر» .
والتكلّف نحو «تحلّم.
والصيرورة: تَأَلَّمْ.
واتخاذُ: نحو: تَبَنَّيْتُ الصبي، أي: اتخذته ابناً.
ومُواصَلَةِ العمل في مُهْلَة نحو، تجرّع وتفهم.
ومُوافقة استفعل نحو: تكبر.
والتوقُّع نحو: تخوّف.
والطَّلب نحو: تنجزّ حاجته.
والتكثير نحو: تغطَّيت بالثياب.
والتلبُّس بالمُسَمَّى المُشْتَقْ منه نحو: تقمّص، أو العمل فيه نحو: تسخّر.
والختل: نحو: تغفلته.
وزعم بعضهم أن أصل» تَلَّقَّى» : «تَلَقَّنَ» بالنون فأبدلت النون الفاً، وهذا غلط؛ لأن ذلك إنما ورد في المضعّف نحو» قَصَصْتَ «و» تَظَنَّنْتُ» ، و «أمْلَلْتُ» فأحد الحرفين إنما يقلب ياء إذا تجانسا.
قال القَفَّال: أصل التلقّي هو التعرُّض للقاء، ثم وضع في موضع الاستقبال للمتلقِّي، ثم يوضع القبول والأخذ، قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرآن مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ [النمل: 6] ويقال: خرجنا نتلقى [الحاجَّ] ، أي: نستقبلهم، وكان - عليه الصَّلاة والسَّلام - يتلقَّى الوحي، أي: يستقبله ويأخذه.
وإذا كان هذا أصل الكلمة، وكان من تلقى رجلاً فتلاقيا لقي كل واحد صاحبه، فأضيف الاجتماع إليهما معاً صلح أن يشتركا في الوَصْفِ بذلك، تلقَّى آدمَ بالنَّصب على معنى جاءته عن الله - تعالى - كلمات، و «من ربه» متعلّق ب «تلقى» ، و «من» لابتداء الغاية مجازاً.
وأجاز أبو البَقَاءَ أن يكون في الأصل صفة ل» كلمات «فلما قدم انتصب حالاً، فتصبح نسبة الفعل إلى كلّ واحد.
وقيل: لما كانت الكلمات سبباً في توبته جعلت فاعلة، ولم يؤنث أنَ مَنْ تلقَّاك فقد تلقيته، فتصبح نسبة الفعل إلى كلّ واحد.
وقيل: لما كانت الكلمات سبباً في توبته جعلت فاعلة، ولم يؤنث الفعل على هذه القراءة وإن كان الفاعل مؤنثاً؛ لأنه غير حقيقي، وللفصل أيضاً، وهذا سبيل كل فعلٍ فصل بينه وبين فاعله المؤنثّ بشيء، أو كان الفاعل مؤنثاً مجازياً.
* فصل في الكلمات التي دعا بها آدم ربه
اختلفوا في تلك الكلمات ما هي؟
فروى» سعيد بن جبير «رضي الله أن آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال: يا ربّ ألم تخلقني بِيَدِكَ بلا وَاسِطَةٍ؟ قال: بلى، قال: يا رب أَلَمْ تنفخ فِيَّ من رُوحِكَ؟ قال: بلى. قال: ألم تُسْكِني جنتك؟ قال: بلى. قال: يا ربّ ألم تسبق رحمتك غَضَبَكَ؟ قال: بلى. قال يا رب إن تُبْتُ وأصلحت تردّني إلى الجنة؟ قال: بلى. فهو قوله: ﴿فتلقى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ .
وزاد السّدى فيه: يا ربّ هل كنت كتبت علي ذنباً؟ قال: نعم.
وقال النَّخعي: أتيت ابن عباس فقلت: ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه؟ قال: علّم الله آدم أمر الحجّ فحجا، وهي الكلمات التي تقال في الحجّ، فلما فرغا الحجّ أوحى الله - تعالى - إليهما قبلت توبتكما.
وروي عن ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، والضحاك، ومجاهد، وقتادة في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين﴾ [الأعراف: 23] ، وعن مجاهد أيضاً: «سبحانك اللهم لا إله إلاَّ أنت ظلمتني فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم» .
وقالت طائفة: رأي مكتوباً على ساق العرش: محمد رسول الله، فشفّع بذلك.
وعن ابن عباس، ووهب بن منبّه أن الكلمات سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت علمت سوءاً، وظلمت نفسي [فاغفر لي إنك خير الغافرين، سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءاً، وظلمت نفسي] فتب عليّ إنك أنت التَّوَّاب الرحيم» .
قالت عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها: لما أراد الله أن يتوبَ على آدم، وطاف بالبيت سبعاً - والبيت حينئذ ربوة حمراء - فلما صلّى ركعتين استقبل البيت، وقال: «اللهم إنك تعلم سرِّي وعلانيتي، فأقبل مَعْذِرَتِي، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي، اللهُمّ إني أسألك إيماناً يُبَاشِرُ قلبي، ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لن يصيبني إلاَّ ما كتبت لي ورضِّني بما قسمت لي» فأوحى الله - تعالى - إلىَ آدم يا آدم قد غفرت لك ذنوبك، ولن يأتي أحد من ذريّتك فيدعوني بمثل الذي دعوتني إلاَّ غفرت ذنبه، وكشفت هُمُومه وغمومه، ونزعت الفَقْرَ من عينيه، وجاءته الدُّنيا وهو لا يريدها» .
قوله: ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ عطف على ما قبله، ولا بُدَّ من تقدير جملة قبلها أي: فقالها. و «الكلمات» جمع «كلمة» وهي: اللَّفظ الدَّالُ على معنى مفرد، وتطلق على الجمل المفيدة مجازاً تسمية للكلّ باسم الجزء كقوله تعالى: ﴿إلى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ﴾ [آل عمران: 64] ثم فسرها بقوله: ﴿أَلاَّ نَعْبُدَ﴾ [آل عمران: 64] إلى آخر الآية، وقال: ﴿كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ﴾ [المؤمنون: 100] يريد قوله: ﴿رَبِّ ارجعون﴾ [المؤمنون: 99] إلى آخره، وقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أَصْدَقُ كلمةٍ قالها شَاعِرٌ كلمة لَبِيِد» وهو قوله: [الطويل]
410 - أَلاَ كُلَّ شَيءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِلُ ... وَكُلَُ نَعِيمٍ لاَ مَحَالَةَ زَائِلُ
فسمى هذا البيت كلمةً، والتوبة: الرجوع، ومعنى وصف الله - تعالى - بذلك أنه عبارةٌ عن العَطْفِ على عباده، وإنقاذهم من العذاب.
وقيل: قبول توبته.
وقيل: خلقه الإنابة والرجوع في قلب المسمى، وآخر الطَّاعات على جَوَارحه، ووصف عن العَطْفِ على عباده، وإنقاذهم من العذاب.
وقيل: قبول توبته.
وقيل: خلقه الإنابة والرجوع في قلب المسمى، وآخر الطَّاعات على جَوَارِحِه، ووصف العَبْدِ بها ظاهر؛ لأنه يرجع عن المعصية إلى الطاعة.
و «التواب الرحيم» صفتا مُبَالغة، ولا يختصَّان بالباري تعالى.
قال تعالى: ﴿يُحِبُّ التوابين﴾ [البقرة: 222] ، ولا يطلق عليه «تائب» ، وإن صرح بفعله مسند إليه تعالى. وقدم «التواب» على «الرحيم» لمناسبة «فتاب عليه» ، ولأنه مناسب لختم الفواصل بالرحيم.
وقوله: ﴿إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم﴾ نظير قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم﴾ [البقرة: 32] .
وأدغم أبو عمرو هاء «إنَّه» في هاء «هُوَ» ، واعترض على هذا بأنّ بين المثلين ما يمنع من الإدغام وهو «الواو» ؛ واجيب: بأن «الواو» وُصْلَةٌ زائدةٌ لا يعتدّ بها؛ بدليل سقوطها في قوله: [الوافر]
411 - لَهُ زَجلٌ كأَنَّهُ صَوْتُ حَادٍ ... إذَا طَلَبَ الوَسِيقَةَ أَوْ زِميرُ وقوله: [البسيط]
412 - أوْ مُعْبَرُ الظَّهْرِ يُبْنِي عَنْ وَلِيَّتِهِ ... مَا حَجَّ رَبَّهُ في الدُّنْيَا وَلاَ اعْتَمَرَا
والمشهور قراءة «إنه» بكسر «إن» ، وقرئ بفتحها على تقدير لام العلّة، وقرأ الأعمش: «آدَم مِّنْ رَبِّهِ» مدغماً.
* فصل في نظم الآية
قوله: «فتاب عليه» أي: قبل توبته، أو وفقه للتوبة، وكان ذلك في يوم عاشوراء في يوم الجُمُعَة.
فإن قيل: لم قال «عليه» ولم يقل: «عليهما» ، وحواء مُشَاركة له في الذنب.
فالجواب: انها كانت تبعاً له كما طوى حكم النِّسَاء في القرآن والسُّنة.
وقيل: لأنه خصّه بالذكر في أوّل القصّة بقوله: ﴿اسكن﴾ [البقرة: 35] ، فكذلك خصّه بالذكر في التلقّي.
وقيل: لأن المرأة حرمة ومستورةٌ، فأراد الله السّتر بها، ولذلك لم يذكرها في القصّة في قوله: ﴿وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى﴾ [طه: 121] .
{"ayah":"فَتَلَقَّىٰۤ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَـٰتࣲ فَتَابَ عَلَیۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِیمُ"}