الباحث القرآني

مُشْعِرٌ بالعليَّة، فها هنا وقه الأمر بالعبادة مُرتبَّا على ذكر وصف الربوبيَّة، فدلَّ على أنَّه إنَّما يلزمنا عبادته سبحانه؛ لكونه ربَّا لنا؛ وذلك يدلُّ على أنه تعالى إنَّما تجبُ عيادتهُ لكونُهُ منعماً على الخلائق بأنواع النِّعم؛ ولذلك فإنَّ إبراهيم - صلوات الله عليه وسلامه - لمَّا منع أباه من عبادة الأوثان، قال: ﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً﴾ [مريم: 42] أي: إنَّها لما لم تكن منعمة على العبادِ، لم تجزِ عيادتها، وبيّن ها هنا أنَّه لما ثبت أن الله تعالى لمَّا كلن ربَّا ومُربَّياً، وجبتْ عبادتهُ، فقد ثبت طرداً وعكساً تعلُّق العبادة والصاحبة صراط مُنْعِماً، ثم قال: ﴿هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ [يعني القول بالتوحيد ونفي الولد والصاحبة صراط مستقيم، وسمي هذا القول صراطاً مستقيماً] تشبيهاً بالطَّريق؛ لأنَّه المؤدِّي إلى الجنة. قوله تعالى: ﴿فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ﴾ . قيل: المرادُ النَّصارى، سُمُّوا أحزاباً؛ لأنهم تحزَّبُوا ثلاث فرق في أمر عيسى: النَّسْطُوريَّة، والملكانيَّة [واليعقوبيَّة] وقيل: المراد بالأحزاب الكفَّار بحيثُ يدخلُ فيهم اليهودُ، والنصارى، والكفَّار الذين كانوا في زمان محمَّد - صلوات الله وسلامه عليه - وهذا هو الظاهرُ؛ لأنَّه تخصيصٌ فيه، ويريِّدهُ قوله تعالى: ﴿فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ . قوله: ﴿مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ : «مَشْهَد» مفعل: إمَّا من الشَّهادة، وإمَّا من الشُّهود، وهو الحضورُ، و «مَشْهَدا» هنا: يجوز أن يراد به الزمانُ، أو المكان، أو المصدر: فإذا كان من الشهادة، والمرادُ به الزمانُ، فتقديرهُ: من وقتٍ شهادة، وإن أريد به المكانُ، فتقديره: من مكانِ شهادةِ يومٍ، وإن أريد المصدرُ، فتقديره: من شهادة ذلك اليومِ، وأن تشهد عليهم ألسنتهم، وأيديهم، وأرجلهم، والملائكة ُ، والأنبياءُ، وإذا كان من الشهود فيه، وهو الموقفُ، أو من وقت الشُّهود، وإذا كان مصدراً بحاليته المتقدمتين، فتكونُ إضافتهُ إلى الظرف من باب الاتِّساع؛ كقوله ﴿مالك يَوْمِ الدين﴾ [الفاتحة: 4] . ويجوز أن يكون المصدر مضافاً لفاعله على أن يجعل اليوم شاهداً عليهم: إمَّا حقيقة، وإمَّا مجازاً. ووصف ذلك المشهد بأنَّه عظيمٌ؛ لأنَّه لا شيء أعظم ممَّا يشاهدُ ذلك اليوم من أهواله. قوله: ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾ : هذا لفظ أمرٍ، ومعناه: التعجُّب، وأصحُّ الأعاريب فيه، كما تقرَّر في علم النَّحو: أنَّ فاعله هو المجرور بالباءِ، والباءُ زائدة، وزيادتها لازمةٌ؛ إصلاحاً للفظ؛ لأنَّ «أفْعِلْ» أمراً لا يكون إلاَّ ضميراً مستتراً، ولا يجوز حذفُ الباءِ إلاَّ مع أنْ وأنَّ؛ كقوله: [الطويل] 3606 - تَرَدَّدَ فيها ضَوْؤُهَا وشُعَاعُهَا ... فأحْصِنْ وأزْيِنْ لامرئٍ أنْ تَسَرْبَلا أي: بأنْ تسربل، فالمجرورُ مرفوعُ المحلِّ، ولا ضمير في «أفْعِلْ» ولنا قولٌ ثانٍ: أن الفاعل مضمرٌ، والمراد به المتكلِّمُ؛ كأنَّ المتكلم يأمر نفسه بذلك، والمجرورُ بعده في محلِّ نصبٍ، ويعزى هذا للزَّجَّاجِ. ولنا قولٌ ثالثٌ: أن الفاعل ضمير المصدرِ، والمجرور منصوبُ المحلِّ أيضاً، والتقدير: أحسن، يا حُسْنُ، بزيدٍ، ولشبه هذا الفاعل عند الجمهور بالفضلة لفظاً، جاز حذفه للدَّلالةِ عليه كهذه الآية، فإنَّ تقديره: وأبْصِرْ بهم، وفيه أبحاثٌ موضوعها كتبُ النَّحْو. * فصل في التعجب قالوا: التعجُّب استعظام الشيء، مع الجهل؛ بسبب عظمه، ثم يجوز استعمالُ لفظ التعجُّب عند مجرَّد الاستعظام من غير خفاءِ السَّبب، أو من غير أن تكون العظمةُ سبب حصوله. قال الفرَّاء: قال سفيانُ: قرأتُ عن شريحٍ: ﴿بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخُرُونَ﴾ [الصافات: 12] فقال: إنَّ الله لا يعجبُ من شيء، إنما يعجبُ من لا يعلم، قال: فذكرتُ ذلك لإبراهيم النخعيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فقال: إنَّ شريحاً شاعر يعجبه علمهن وعبد الله أعلمُ بذلك منه قرأها ﴿بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخُرُونَ﴾ . ومعناه: أنَّه صدر من الله تعالى فعلٌ، لو صدر مثله عن الخلق، لدلَّ على حصول التعجُّب في قلوبهم، وبهذا التأويل يضافُ المكرُ والاستهزاءُ إلى الله تعالى، وإذا عرفت هذا، فللتعجُّب صيغتان: إحداهما: ما أفعلهُ، والثانيةُ أفعل به. كقوله تعالى: ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾ والنحويُّون ذكروا له تأويلان: الأول: قالوا: أكْرِمْ بزيدٍ، أصل «أكرم زيدٌ» أيك صار ذا كرمٍ، ك «أغَدَّ البَعِيرُ» أي: صار ذا غُدَّة، إلاَّ أنه خرج على لفظ الأمْر، ومعناه الخبرُ، كما أخرج على لفظ الأمر ما معناه الخبر، كما أخرج لفظ الخبر ما معناه الأمر؛ كقوله سبحانه وتعالى: ﴿والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ [البقرة: 228] ، ﴿والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ [البقرة: 233] ، ﴿قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً﴾ [مريم: 75] أي: يمُدُّ له الرحمنُ، والباء زائدةٌ. الثاني: أن يقال: إنَّه أمرٌ لكُلِّ أحدٍ بأن يجعل زيداً كريماً، أي: بأن يصفه بالكرمِ، والباء زائدةٌ؛ كما في قوله: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة﴾ [البقرة: 195] . قال ابن الخطيبِ: وسمعتُ لبعضِ الأدباء فيه تأويلاً ثالثاً؛ وهو أن قولك: أكرم بزيدٍ، يفيدُ أنَّ زيداً بلغ في الكرمِ إلى حيثُ كأنَّه في ذاته صار كرماً؛ حتَّى لو أردتَّ جعل غيره كريماً، فهو الذي يلصقك بمقصودك ويحصِّلُ بك غرضك. * فصل في معنى الآية المشهورُ أنَّ معنى قوله: ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾ «ما أسمعهُمْ، وما أبْصَرهُم» والتعجُّب على الله تعالى محالٌ، وإنَّما المرادُ أنَّ أسماعهم وأبصارهُم يومئذٍ جديرةٌ بأن يتعجَّب منها بعدما كانُوا صُمًّا عُمياً في الدُّنيا. وقيل: معناه التَّهديدُ مما يسمعُون وسيبصرُون ما يَسُوءهُمْ، ويصدعُ قلوبهم. وقال القاضي: ويحتملُ أن يكون المرادُ: أسمع هؤلاء وأبصرهم، أيك عرِّفهم حال القوم الذين يأتوننا؛ ليعتبروا وينزجروا. وقال الجُبَّائيُّ: ويجوز: أسمع النَّاسَ بهؤلاء، ليعرفُوا أمرهُم، وسُوء عاقبتهم، فينزجروا عن الإتيان بمثل فعلهم. قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتُونَنَا﴾ معمولٌ ل «أبْصِرْ» . [ولا يجوز أن يكون معمولاً ل «أسْمِعْ» لأنه لا يفصلُ بين فعلِ التعجُّب، ومعموله؛ ولذلك كان الصحيح أنه] لا يجوز أن تكون المسألةُ من التنازع، وقد جوَّزه بعضهم ملتزماً إعمال الثاني، وهو خلافُ قاعدةِ الإعمال، وقيل: بل هو أمرٌ حقيقة، والمأمورُ به رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمعنى: أسمعِ النَّاس، وأبصرهم بهم وبحديثهم ماذا يصنعُ بهم من العذاب؟ وهو منقولٌ عن أبي العالية. قوله تعالى: ﴿لكن الظالمون اليوم﴾ . نصب «اليَوْمَ» بما تضمَّنه الجار من قوله «في ضلالٍ مُبينٍ» أي: لكن الظالمُون استقرُّوا في ضلالٍ مبينٍ اليوم، ولا يجوز أن يكون هذا الظرفُ هو الخبرَ، والجارُّ لغوٌ؛ لئلا يخبر عن الجثة [بالزَّمان؛ بخلاف] قولك: القتالُ اليوم في دارِ زيدٍ؛ فإنه يجوز الاعتباران. * فصل في معنى الآية المعنى: ﴿لكن الظالمون اليوم فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ أي: خطأ بيِّنٍ، وفي الآخرةِ يعرفُون الحقَّ. وقيل: لكن الظَّالمُون اليوم في الآخرة في ضلال عن الجنَّة؛ بخلاف المؤمنين. وقوله ﴿لكن الظالمون﴾ من إيقاع الظَّاهر موقع المضمر. قوله: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة﴾ هذا أمرٌ لمحمَّد - صلوات الله عليه وسلم - بأن ينذر من في زمانه، والإنذار: التخويفُ من العذاب، لكي يحذروا ترك عبادةِ الله تعالى، ويوم الحسرة: هو يوم القيامة؛ لأنَّه يكثر التحسُّر من أهل النَّار. وقيل: يتحسَّر أيضاً في الجنَّة، إذا لم يكن من السابقين إلى الدَّرجات العالية؛ لقول رسول الله - صلوات الله عليه وسلامه -: «مَا مِنْ أحدٍ يمُوتُ إلاَّ ندمَ، قالوا: فَما ندمهُ يا رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنَّ كان مُحْسناً، ندم ألاَّ يكون ازداد، وإن كان مسيئاً ندم ألاَّ يكون نزَعَ» والأول أصحُّ؛ لأن الحسرة [هَمٌّ] ، ولا تليقُ بأهْل الجنَّة. قوله: ﴿إِذْ قُضِيَ الأمر﴾ : يجوز أن يكون منصوباً بالحسرةِ، والمصدرُ المعرَّفُ ب «ألْ» يعملُ في المفعولِ الصَّريح عند بعضهم، فكيف بالظَّرف؟ ويجوز أن يكون بدلاً من «يَوْم» فيكون معمولاً ل «أنْذِرْ» كذا قال أبو البقاء، والزمخشريُّ وتبعهما أبو حيان، ولم يذكر غير البدل، وهذا لا يجوز إن كان الظَّرف باقياً على حقيقته؛ إذ يستحيلُ أن يعمل المستقبلُ في الماضي، فإن جعلت «اليوم» مفعولاً به، أي: خوِّفهُم نفس اليوم، أي: إنَّهُم يخافُون اليوم نفسهُ، صحَّ ذلك لخُرُوجِ الظَّرف إلى حيِّز المفاعيل الصريحة. * فصل في قوله تعالى ﴿إِذْ قُضِيَ الأمر﴾ في قوله تعالى: ﴿إِذْ قُضِيَ الأمر﴾ وجوه: أحدها: قُضِيَ الأمرُ ببيان الدَّلائل، وشرح أمر الثَّواب والعقاب. وثانيها: [إذ قضي الأمرُ يوم الحسرة بفناء الدُّنيا، وزوالِ التَّكليف، والأول أقرب؛ لقوله: ﴿وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ . وثالثها:] «إذْ قُضِيَ الأمْرُ» فُرِغَ من الحساب، وأدخل أهل الجنَّة الجنَّة، وأهلُ النَّار النَّار، وذُبح الموتُ؛ كما روي أنَّه سُئل النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قوله: ﴿إِذْ قُضِيَ الأمر﴾ فقال: «حِينَ يَجاءُ بالموتِ على صُورة كبشٍ أمْلَحَ، فيذبحُ، والفريقان ينظران؛ فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحٍ، وأهلُ النَّار غمَّا إلى غمِّ» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب