قال الحسنُ: حكم الله أنه لا يعذب أحداً من هذه الأمة بعذاب الاستئصال، وأخَّر ذلك العذاب إلى القيامة؛ فلمَّا أخَّر عنهم ذلك العذاب قالوا على سبيل الاستهزاء: ما الذي حبسهُ عنَّا؟ .
وقيل: المرادُ بالعذاب: ما نزل بهم يوم بدرٍ.
وأصل «الأمَّة» الجماعة، قال تعالى: ﴿وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس﴾ [القصص: 23] وقوله: ﴿وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ [يوسف: 45] ، أي: انقضاء أمة، فكأنَّهُ قال: إلى انقراض أمةٍ ومجيء أخرى.
وقيل: اشتقاق الأمَّةِ من الأمِّ، وهو القصد، كأنَّهُ يعني الوقت المقصود بإيقاع الموعود فيه. ﴿لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ﴾ أي شيء يحبسه، يقولون ذلك، استعجالاً للعذابِ واستهزاءً، يعنُون أنه ليس بشيء.
قوله: «لَيَقولُنَّ» هذا الفعلُ معربٌ على المشهورِ؛ لأنَّ النُّون مفصولةٌ تقديراً، إذ الأصل: «لَيَقُولُوننَّ» النون الأولى للرفع، وبعدها نونٌ مشددة، فاستثقل توالي ثلاثةِ أمثال، فحذفت نونُ الرفع؛ لأنَّها لا تدلُّ من المعنى على ما تدلُّ عليه نون التَّوكيد، فالتقى ساكنان، فحذفت الواوُ التي هي ضميرُ الفاعل لالتقائهما، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك.
و «مَا يَحْبِسُهُ» استفهامٌ، ف «ما» مبتدأ، و «يَحْبِسُهُ» خبره، وفاعل الفعل ضميرُ اسم الاستفهام، والمنصوبُ يعودُ على العذابِ، والمعنى: أيُّ شيءٍ من الأشياء يحبسُ العذاب؟ قوله: «ألا يَوْمَ يَأتيهِمْ» «يَوْمَ» منصوبٌ ب «مَصْرُوفاً» الذي هو خبرُ «ليس» ، وقد استدلَّ به جمهور البصريين على جواز تقديم خبر «ليس» عليهما، ووجهُ ذلك أنَّ تقديم المعمول يُؤذن بتقديم العامل، و «يوم» منصوب ب «مَصْرُوفاً» وقد تقدَّم على «ليس» فليَجُزْ تقديمُ الخبر بطريق الأولى، لأنَّه إذا تقدَّم الفرعُ فأولى أن يتقدَّم الأصلُ.
وقد ردَّ بعضهم هذا الدليل بشيئين:
أحدهما: أنَّ الظرف يُتوسَّعُ فيه ما لا يتوسَّع في غيره.
والثاني: أنَّ هذه القاعدة مُنْخرمةٌ، إذ لنا مواضع يتقدَّمُ فيها المعمولُ ولا يتقدم فيها العاملُ، وأورد من ذلك نحو قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ﴾ [الضحى: 9، 10] ف «اليتيمَ» منصوبٌ ب «تَقْهَرْ» ، و «السَّائِل» منصوبٌ ب «تَنْهَرْ» وقد تقدَّما على «لا» النَّاهية، ولا يتقدَّمُ العاملُ - وهو المجزومُ - على «لا» ، وللبحث في هذه المسألة موضعق أليقُ به.
قال أبُو حيَّان: وقد تتبَّعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر «ليسَ» عليها، ولا بمعموله إلاَّ ما دلَّ عليه ظاهرُ هذه الآية وقول الشاعر: [الطويل]
2945 - فَيَأبَى فما يَزْدَادُ إلاَّ لجَاجَةً ... وكُنْتُ أبِيّاً في الخَنَى لسْتُ أقْدِمُ
واسمُ «ليس» ضميرٌ عائدٌ على «العذاب» ، وكذلك فاعل «يأتيهم» ، والتقدير: ألا ليس العذاب مصرُوفاً عنهم يوم يأتيهم العذاب.
وحكى أبو البقاءِ عن بعضهم أنَّ العامل في «يَوْمَ يأتيهم» محذوفٌ تقديره: أي: لا يصرفُ عنهم العذابُ يوم يأتيهم، ودلَّ على المحذوف سياق الكلام.
قال: ﴿وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ﴾ وذكر «حَاقَ» بلفظ الماضي مبالغة في التَّأكيد والتقرير وأنَّ خبر الله تعالى واقعٌ لا محالة.
{"ayah":"وَلَىِٕنۡ أَخَّرۡنَا عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابَ إِلَىٰۤ أُمَّةࣲ مَّعۡدُودَةࣲ لَّیَقُولُنَّ مَا یَحۡبِسُهُۥۤۗ أَلَا یَوۡمَ یَأۡتِیهِمۡ لَیۡسَ مَصۡرُوفًا عَنۡهُمۡ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا۟ بِهِۦ یَسۡتَهۡزِءُونَ"}