قوله - تعالى -: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً﴾ الآية.
هذا جواب ثانٍ عن قولهم: ﴿متى هذا الوعد﴾ [يونس: 48] وقد تقدَّم الكلام على «أرَأيْتَ» هذه، وأنَّها تتضمَّن معنى: أخبرني، فتتعدَّى إلى اثنين، ثانيهما غالباً جملةٌ استفهاميَّة، فينعقد منها مع ما قبلها مبتدأٌ وخبرٌ، كقولهم: «أرأيتكَ زيداً ما صنع» وتقدَّم مذاهبُ النَّاسِ فيها في «عذاب» ، والمسألةُ من إعمال الثاني؛ إذ هو المختار عند البصريِّين، ولمَّا أَعمله أضمر في الأول وحذفه؛ لأنَّ إبقاءه مخصوصٌ بالضَّرورة، أو جائزُ الذِّكْرِ على قلَّةٍ عند آخرين، ولو أعمل الأول، لأضمر في الثاني إذ الحذف منهُ لا يكونُ إلاَّ في ضرورة، أو في قليلٍ من الكلام.
ومعنى الكلام: قل لهم يا محمد: أخبروني عن عذاب الله، إن أتاكم أيُّ شيءٍ تستعجلون منه، وليس شيءٌ من العذاب يستعجل به؛ لمرارته، وشدَّة إصابته، فهو مُقْتَضٍ لنُفُورِ الطبع منه.
قال الزمخشري: «فإن قلت: بم يتعلَّق الاستفهامُ، وأين جوابُ الشَّرط؟ قلت: تعلَّق ب» أرَأيْتُمْ «لأنَّ المعنى: أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون، وجوابُ الشَّرط محذوفٌ، وهو: تندمُوا على الاستعجَال، أو تعرفُوا الخطأ فيه» .
قال أبو حيَّان: «وما قدَّره غيرُ سائغ؛ لأنَّه لا يقدَّر الجوابُ إلاَّ ممَّا تقدَّمه لفظاً أو تقديراً، تقول:» أنت ظالمٌ إن فعلت» التقدير: إن فعلت، فأنت ظالمٌ، وكذلك ﴿وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 70] التقدير: إن شاء الله نَهْتَدِ، فالذي يُسَوِّغ أن يقدر: إن أتاكم عذابه، فأخبروني ماذا يستعجلُ منهُ المجرمُونَ.
وقال الزمخشريُّ أيضاً: «ويجوز أن يكون ﴿مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون﴾ جواباً للشرط كقولك: إن أتيتُك ما تُطْعمني؟ ثم تتعلَّق الجملةُ ب» أرأيْتُمْ» ، وأن يكون «أثمَّ إذا ما وقع آمنتُم به» جواباً للشَّرْطِ، و ﴿مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون﴾ اعتراضاً، والمعنى: إن أتاكم عذابه، آمنتم به بعد وقوع حين لا ينفعكم الإيمان.
قال أبو حيَّان: «وأمَّا تجويزهُ أن يكون» مَاذَا «جواباً للشَّرط فلا يصحُّ؛ لأنَّ جواب الشَّرط إذا كان استفهاماً، فلا بُدَّ فيه من الفاءِ تقول: إنْ زارنا فلانٌ، فأيُّ رجلٍ هو، وإن زارنا فلانٌ، فأيُّ يدٍ لهُ بذلك، ولا يجوزُ حذفها إلاَّ إن كان في ضرورةٍ، والمثالُ الذي ذكره وهو» إنْ أتَيْتُكَ ما تُطعمني؟ «هو من تمثيله، لا من كلام العرب.
وأمَّا قوله: ثُمَّ تتعلَّق الجملةُ ب» أرَأيْتُم «إن عنى بالجملة» مَاذَا يَسْتعجِلُ «فلا يصح ذلك؛ لأنَّه قد جعلها جواباً للشَّرْطِ، وإن عنى بالجملةِ جملة الشَّرطِ، فقد فسَّر هو» أرَأيْتُمْ «بمعنى: أخبرُوني، و» أخبرني» يطلب متعلِّقاً مفعولاً، ولا تقع جملةُ الشَّرطِ موقع مفعول «أخبرني» ، وأمَّا تجويزه أن يكون: «أثُمَّ إذا ما وقعَ آمنتُم بِهِ» جواباً للشَّرطِ، و ﴿مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون﴾ اعتراضاً، فلا يصحُّ أيضاً لما ذكرناه: من أن جملة الاستفهام لا تقع جواباً للشَّرط إلاَّ ومعها فاءُ الجواب، وأيضاً: ف» ثُمَّ «هنا حرف عطفٍ تعطفُ الجملة التي بعدها على التي قبلها، فالجملةُ الاستفهاميَّة معطوفة، وإذا كانت معطوفة، لم يصحَّ أن تقع جواب الشَّرط، وأيضاً: ف» أرَأيْتُمْ «بمعنى:» أخبروني «يحتاج إلى مفعول، ولا تقع جملة شرطٍ موقعه» .
وكون «أرأيتم» بمعنى «أخبروني» هو الظاهر المشهور، وقال الحوفيُّ: «الرؤية من رؤية القلب التي بمعنى العلم؛ لأنَّها داخلةٌ على الجملة من الاستفهام التي معناها: التقرير، وجواب الشرط محذوفٌ، وتقدير الكلام: أرأيتم ما يستعجل من العذاب المجرمون، إن أتاكم عذابه» انتهى. فهذا ظاهرٌ في أنَّ «أرأيتم» غير مضمنةٍ معنى الإخبار، وأنَّ الجملة الاستفهاميَّة سدَّت مسدَّ المفعولين، ولكنَّ المشهور الأول. قوله: «مَاذَا يَسْتَعجلُ» قد تقدَّم الكلامُ على هذه الكلمة، ومذاهب النَّاس فيها [البقرة: 26] ، وجوَّز بعضهم هنا أن تكون «ما» مبتدأ، و «ذا» خبره، وهو موصولٌ بمعنى: «الَّذي» ، و «يَسْتَعْجِل» صلته، وعائده محذوفٌ تقديره: أيُّ شيء الذي يستعجله منه، أي: من العذاب، أو من الله - تعالى -.
وجوَّز مكي، وغيره: أن يكون «مَاذَا» كلُّه مبتدأ، أي: يجعل الاسمان بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ، والجملة بعده خبر، قال أبو عليٍّ: «وهو ضعيفٌ: لخلوِّ الجملة من ضمير يعُود على المبتدأ» .
وقد أجاب أبو البقاء عن هذا، فقال: «ورُدَّ هذا القول بأنَّ الهاء في» مِنْهُ «تعودُ على المبتدأ؛ كقولك: زيدٌ أخذتُ منه درهماً» .
قال شهاب الدِّين: «ومثلُ أبي علي لا يخفى عليه مثل ذلك، إلاَّ أنَّه لا يرى عود الهاء على الموصول؛ لأنَّ الظاهر عودها على العذاب» .
قال أبو حيَّان: «والظَّاهرُ عودُ الضمير في» مِنْه «على العذاب، وبه يحصل الرَّبْطُ لجملة الاستفهام بمعفول» أرأيتم «المحذوف الذي هو مبتدأ في الأصل» .
وقال مكي: «وإن شئت جعلت» ما» ، و «ذا» بمنزلة اسمٍ واحدٍ في موضع رفع بالابتداء، والجملة التي بعدهُ الخبر، والهاءُ في «منهُ» تعود أيضاً على العذاب» .
قال شهابُ الدِّين: «فقد ترك المبتدأ بلا رابطٍ لفظي، حيث جعل الهاءَ عائدةً على غير المبتدأ، فيكون العائدُ عنده محذوفاً، لكنَّه قال بعد ذلك:» فإن جعلت الهاء في «منهُ» تعود على الله - جلَّ ذكره -، و «ما» و «ذا» اسماً واحداً، كانت «ما» في موضع نصبٍ ب «يستعجل» والمعنى: أيَّ شيء يستعجلُ المجرمون من الله «فقوله هذا يؤذن بأنَّ الضمير لمَّا عاد على غير المبتدأ، جعله مفعولاً مقدماً، وهذا الوجه بعينه جائزٌ فيما إذا جعل الضمير عائداً على العذاب.
ووجه الرَّفع على الابتداء جائزٌ، فيما إذا جعل الضمير عائداً على الله - تعالى -، إذ العائدُ الرَّابطُ مقدرٌ، كما تقدم التنبيهُ عليه» .
حاصل الجواب: أن يقال لأولئك الكفار الذين يطلبون نزول العذاب: بتقدير أن يحصل هذا المطلوبُ، ما الفائدة لكم فيه؟ فإن قلتم نؤمن عنده، فذلك باطل؛ لأنَّ الإيمان في ذلك الوقت لا يفيد نفعاً ألبتَّة؛ لأنَّه إيمان في وقت انحباس النفس؛ فثبت أنَّ الذي تطلبونه لو أتاكم، لم يحصل منه إلاَّ العذاب في الدنيا، ثم يحصل عقيبة يوم القيام عذابٌ آخر أشدُّ منه، ثم يقرون ذلك العذاب بكلام يدل على الإهانةِ، وهو قوله: ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ .
فالحاصل: أنَّ هذا الذي تطلبونه محضُ الضَّرر العادي من جهات النفع، والعاقل لا يفعل ذلك.
وقوله: «بَيَاتاً» أي: ليلاً يقال: بت ليلتي أفعل كذا؛ لأنَّ الظاهر أنَّ الإنسان يكون في البيت بالليل؛ فجعل هذا اللفظ كناية عن الليل، والبيات: مصدر مثل التَّبييت؛ كالوداع، والسراح، ويقال في النهار ظللت أفعل كذا؛ لأنَّ الظاهر أن الإنسان يكون في النهار في الظِّلِّ، وانتصب» بياتاً «على الظرف أي: وقت بيات.
قوله:» أثُمَّ» قد تقدَّم خلافُ الزمخشري للجمهور في ذلك، حيث يقدِّر جملة بين همزة الاستفهام، وحرف العطف، و «ثمَّ» : حرفُ عطف.
واعلم: أنَّ دخول حرف الاستفهام على» ثُمَّ «كدخوله على» الواوِ «و» الفاء» في قوله: ﴿أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى﴾ [الأعراف: 98] ، ﴿أَهْلُ القرى﴾ [الأعراف: 97] وهو يفيد التَّقريع والتَّوبيخ، وقال الطبري: «أثُمَّ» هذه بضمِّ الثاء ليست التي بمعنى: العطف، وإنَّما هي بمعنى: «هنالك» وهذا لا يوافقُ عليه؛ لأنَّ هذا المعنى لا يعرفُ في «ثُمَّ» بضم «الثاء» ، إلاَّ أنَّه قد قرأ طلحة بن مصرِّف: «أثَمَّ» بفتح الثاء، وحينئذ يصحُّ تفسيرها بمعنى: هنالك.
قوله: «ألآن» قد تقدَّم الكلام في ﴿الآن﴾ [البقرة: 72] ، وقرأ الجمهور: «ألآن» بهمزة الاستفهام داخله على» الآن «وقد تقدَّم مذاهبُ الفراء في ذلك، و» الآن «نصب بمضمر تقديره: الآن آمنتم، ودلَّ على هذا الفعل المقدَّر الفعلُ الذي تقدمهُ، وهو قوله: ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ﴾ ولا يجوز أن يعمل فيه» آمنتُم «الظَّاهرُ؛ لأنَّ ما قبل الاستفهام لا يعمل فيما بعده، كما أنَّ ما بعده لا يعملُ فيما قبله؛ لأنَّ له صدر الكلام، وهذا الفعلُ المقدَّرُ ومعمولُه على إضمار قول، أي: قيل لهم إذ آمنوا بعد وقوع العذابِ: آمنتُم الآن به، وقرأ عيسى، وطلحة:» آمنتم به الآن «بوصل الهمزة من غير استفهامٍ، وعلى هذه القراءة ف» الآن «منصوبٌ ب» آمنتم «هذا الظَّاهر.
قوله: ﴿وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾» وقَدْ كُنتُم» جملةٌ حاليةٌ، قال الزمخشري: «وقد كُنتُم به تَستعجلُون؛ يعني: تُكذِّبُونَ؛ لأنَّ استعجالهم كان على جهةِ التَّكذيب، والإنكار» .
فجعله من باب الكناية؛ لأنَّه دلالةٌ على الشَّيء بلازمه، نحو «هو طويلُ النَّجاد» كنيت به عن طُول قامته؛ لأنَّ طولَ نجاده لازمٌ لطول قامته، وهو باب بليغٌ.
وقوله: ﴿ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ هذه الجملةُ على قراءة العامَّة؛ عطفٌ على ذلك الفعل المقدَّر الناصب ل «الآن» وعلى قراءة طلحة هو استئناف إخبار عمَّا يقال لهم يوم القيامة، و «ذُوقُوا» و «هَلْ تُجزَونَ» كلُّه في محلِّ نصبٍ بالقول، وقوله: «إلاَّ بِمَا» هو المفعولُ الثاني ل «تُجْزَون» ، والأولُ قائمٌ مقام الفاعلِ، وهو استثناءٌ مفرَّغٌ.
فصل
دلَّت الآية على أنَّ الجزاء يوجب العمل، أمَّا عند الفلاسفة: فهو أثر العمل، وأمَّا عند المعتزلة: فإنَّ العمل الصَّالح يوجب استحقاق الثَّواب على الله - تعالى -، وأما عند أهل السنة؛ فلأنَّ ذلك الجزاء واجب بحكم الوعد المحض.
قالت المعتزلةُ: ودلَّت الآية على كون العبد مكتسباً، وعند أهل السُّنَّة معناها: أنَّ مجموع القُدْرَة مع الدَّاعية الحاصلة يوجب الفعل.
{"ayahs_start":50,"ayahs":["قُلۡ أَرَءَیۡتُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُهُۥ بَیَـٰتًا أَوۡ نَهَارࣰا مَّاذَا یَسۡتَعۡجِلُ مِنۡهُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ","أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءَامَنتُم بِهِۦۤۚ ءَاۤلۡـَٔـٰنَ وَقَدۡ كُنتُم بِهِۦ تَسۡتَعۡجِلُونَ","ثُمَّ قِیلَ لِلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ ذُوقُوا۟ عَذَابَ ٱلۡخُلۡدِ هَلۡ تُجۡزَوۡنَ إِلَّا بِمَا كُنتُمۡ تَكۡسِبُونَ"],"ayah":"قُلۡ أَرَءَیۡتُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُهُۥ بَیَـٰتًا أَوۡ نَهَارࣰا مَّاذَا یَسۡتَعۡجِلُ مِنۡهُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ"}