قوله: بسم الله الرحمن الرحيم «الر» تقدم الكلامُ على الحروف المقطعة في أول الكتاب، واختلافُ القُرَّاء في إمالة هذه الحروف إذا كان في آخرها ألفٌ، وهي: را، وطا، وها، ويا، وحا. فأمال «را» من جميع سورها إمالة محضة الكوفيون إلا حفصاً، وأبو عمرو وابن عامر. وأما الأخوان وأبو بكر «طا» من جميع سورها نحو: ﴿طس﴾ [النمل: 1] ، ﴿طسم﴾ [الشعراء: 1] ، ﴿طه﴾ [طه: 1] ، و «يا» من «يس» ، وافقهم ابنُ عامر، والسوسي على «يا» من ﴿كهيعص﴾ [مريم: 1] ، بخلاف عن السوسي. وأمال الأخوان وأبو عمر، وورش، وأبو بكر «ها» من «طه» ، وكذلك أمالها من «كهيعص» أبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر دون حمزة وورش.
وأمال أبو عمرو، وورش، والأخوان، وأبو بكر، وابن ذكوان «حا» من جميع سورها السبع [غافر: 1] . إلاَّ أن أبا عمرو، وورشاً يميلان بين بين، وللقرَّاء في هذا عمل كثير مذكورٌ في كتب القراءات، وكلُّها لغات صحيحةٌ.
قال الواحدي: «الأصلُ ترك الإمالة في هذه الكلمات نحو» مَا «و» لا «؛ لأن ألفاتها ليست منقلبة عن الياء، وأمَّا من أمال فلأنَّ هذه الألفاظ أسماء للحروف المخصُوصة، فقصد بذكر الإمالة التَّنبيه على أنَّها أسماء لا حروف» .
فصل
اتفقوا على أنَّ قوله «الر» وحده ليس آية، واتفقوا على أنَّ قوله «طه» وحده آية، والفرق أن قوله «الر» لا يشاكل مقاطع الآي التي بعده، بخلاف قوله «طه» فإنه يشاكل مقاطع الآي التي بعده.
قال ابن عبَّاس والضحاك: «الر» معناه: أنا الله أرى، وقيل: أنا الربُّ لا ربَّ غيري. وقال سعيد بن جبير: «الر» و «حم» و «ن» حروف اسم الرحمن مُفرقة، ورواه أيضاً يزيد عن عكرمة عن ابن عبَّاس. قال الرَّاوي: فحدَّثت به الأعمش فقال: «عندك أشباه هذا ولا تخبرني به» .
قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب﴾ «تلك» يحتمل أن تكون إشارة إلى آيات هذه السورة، وأن تكون إشارة إلى ما تقدَّم هذه السورة من آيات القرآن، لأن «تلك» إشارة إلى غائبٍ مؤنَّث، وقيل: «تلك» بمعنى «هذه» أي: هذه آياتٌ، ومنه قول الأعشى: [الخفيف]
2862 - تِلْكَ خَيْلِي منهُ وتِلْكَ رِكابِي ... هُنَّ صُفْرٌ أولادُهَا كالزَّبيبِ
أي: هذه خَيْلِي، وهذه رِكَابِي.
«والكتاب» : يحتمل أن يكون المراد به القرآن، ويحتمل أن يراد به الكتاب المخزون المكنون عند الله تعالى الذي نسخ منه كل كتاب، لقوله: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ﴾
[الواقعة: 77، 78] ، وقوله: ﴿وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا﴾ [الزخرف: 4] ، وقوله: ﴿وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب﴾ [الرعد: 39] . وقيل: المراد من «الكتابِ الحكيمِ» : التوراة والإنجيل، والتقدير: إنَّ الآيات المذكورة في هذه السُّورة هي الآيات المذكورة في التوراة والإنجيل، والمعنى: إنَّ القصص المذكُورة في هذه السُّورة موافقة للقصص المذكورة في التوراة والإنجيل، فحصول هذه الموافقة في هذه السورة موافقة للقصص لا يمكن إلا إذا خص الله محمداً بإنزال الوحي عليه، وقال أبُو مسلم: قوله «تِلْكَ» إشارة إلى حروف التهجِّي، فقوله: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب﴾ يعني: أنَّ هذه الحروف هي الأشياء التي جعلت آيات وعلامات لهذا الكتاب الذي وقع به التَّحدِّي، فلولا امتياز هذا الكتاب عن كلام النَّاسِ بالوصف المعجز، وإلا لكان اختصاصُه بهذا النظم دون سائر النَّاس القادرين على التَّلفُّظ بهذه الحروف محالاً.
قوله: «الحكيم» قيل: ذُو الحكمة، بمعنى اشتمال الكتاب على الحكمة. وقيل: وصف الكتاب بصفة من تكلم به؛ كقول الأعشى: [الكامل]
2863 - وغريبةٍ تَأتِي المُلُوكَ حَكيمَةٍ ... قَدْ قُلْتُهَا ليُقالَ: مَنْ ذَا قالهَا؟
فيكون «فعيل» بمعنى «مُفْعَلٍ» .
وقال الأكثرون: «الحَكِيم» بمعنى الحاكم، «فعيل» بمعنى «فاعل» ؛ لقوله تعالى ﴿وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس﴾ [البقرة: 213] وقيل: بمعنى: المُحْكَم، «فَعِيل» بمعنى «مُفْعَل» ، أي: محكم، والمحكم معناه: المنع من الفساد، فيكون المعنى: لا تُغَيِّرهُ الدُّهور، والمراد: براءته عن الكذب والتناقض. وقال الحسن «حكم فيه بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القُربى ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وحكم فيه بالجنَّة لمنْ أطاعهُ، وبالنَّار لمن عصاه» .
فعلى هذا «الحَكيم» يكون بمعنى المحكُوم فيه. وقيل: «الحَكِيم» في أصل اللغة: عبارة عن الذي يفعل الحِكْمَة والصواب، فمن حيث إنَّه يدل على هذه المعاني صار كأنَّه هُوَ الحكيم في نفسه.
{"ayah":"الۤرۚ تِلۡكَ ءَایَـٰتُ ٱلۡكِتَـٰبِ ٱلۡحَكِیمِ"}