الباحث القرآني

وقرأ أبو الزبير: تتلظى. فإن قلت: كيف قال لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى...... وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى وقد علم أن كل شقىّ يصلاها [[قال محمود: «فان قلت: كيف قال لا يصلاها إلا الأشقى وسيجنبها الأتقى، وقد علم أن كل شقى يصلاها ... الخ» قال أحمد: لا شك أن السائل بنى سؤاله على التمسك بمفهوم الآية لورودها بصيغة التخصيص، فحاصل جواب الزمخشري أن التخصيص هاهنا لفائدة أخرى غير النفي عما عدا المخصص، وتلك الفائدة المقابلة، وحيث تمحض لك السؤال والجواب، فهو يلاحظ نظر الشافعي رحمه الله في قوله تعالى قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ فانه لم يقل بمفهوم حصرها، وحملها على أن الحصر لفائدة المقابلة بالرد لأحكام الجاهلية، لا لنفى ما عدا المحصور. على أن الزمخشري إنما ضيق عليه الخناق في هذه الآية حتى التزم ورود السؤال المذكور، التفاته إلى قاعدته الفاسدة وحذره أن تنقض، ويأبى الله إلا نقضها ورفضها، وإذا نزلت الآية على قواعد أهل السنة وضع لك ما قلته، فنقول: المصلى في اللغة أن يحفروا حفيرا فيجمعوا فيه جمرا كثيرا، ثم يعمدوا إلى شاة فيدسوها وسطه بين أطباقه، فأما ما يشوى فوق الجمر أو على المقلى أو على التنور فليس بمصلى، وهذا التفسير بعينه نص عليه الزمخشري ونقطة عن أهل اللغة في سورة الغاشية أيضا، وأنا وقفت عليه في كتبهم، فإذا عرفت معنى التصلية لغة وأنها أشد أنواع الإحراق بالنار، وفي علمك أن الناس عند أهل السنة ثلاثة أصناف: مؤمن صالح فائز، ومؤمن عاص، وكافر، وأن المؤمن الفائز يمر على النار فيطفئ نوره لهبها ولا يؤلم بمسها البتة، وإنما يردها تحلة القسم، والعاصي إن شاء الله تعذيبه ومجازاته فإنما يعذب على وجه النار في الطبقة الأولى باتفاق، حتى أن منهم من تبلغ النار إلى كعبه: وأشدهم من تبلغ النار إلى موضع سجوده فيحسه، ولا يعذب أحد من المؤمنين بين أطباقها ألبتة بوعد الله تعالى، والكافر هو المعذب بين أطباقها: تبين لك أن النار لا يصلاها أى يعذب بين أطباقها- كما علمت تفسيره في اللغة- إلا الكافر: وهو الأشقى، لأن المؤمن العاصي لا يبلغ مبلغه في الشقاء، وأن المؤمن الفائز وهو الأتقى بالنسبة إلى المؤمن العاصي بجنب النار بالكلية، لأن وروده تحلة القسم لا يصل إليه مسها ولا ألمها، وأن المؤمن العاصي الذي ليس بالأتقى ولا بالأشقى لا يصلاها ولا يجنبها بالكلية، لأن وروده تحلة القسم بل يعذب فيها لا بالصلى، فهذا أحسن ما حملت الآية عليه، لكن إنما ينزل على جادة السنة. وأما الزمخشري فينحرف عنها، فلا جرم أنه في عهدة الجواب يفكر ويقدر. والله أعلم.]] ، وكل تقىّ يجنبها، لا يختص بالصلى أشقى الأشقياء، ولا بالنجاة أتقى الأتقياء، وإن زعمت أنه نكر النار فأراد نارا بعينها مخصوصة بالأشقى، فما تصنع بقوله وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى فقد علم أن أفسق المسلمين [[قوله «فقد علم أن أفسق المسلمين» لعله: وقد. (ع)]] يجنب تلك النار المخصوصة، لا الأتقى منهم خاصة؟ قلت: الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين فقيل: الأشقى، وجعل مختصا بالصلى، كأن النار لم تخلق إلا له. وقيل: الأتقى، وجعل مختصا بالنجاة، كأن الجنة لم تخلق إلا له. وقيل: هما أبو جهل أو أمية بن خلف، وأبو بكر رضى الله عنه يَتَزَكَّى من الزكاء. أى: يطلب أن يكون عند الله زاكيا، لا يريد به رياء ولا سمعة. أو يتفعل من الزكاة. فإن قلت: ما محل يتزكى؟ قلت: هو على وجهين: إن جعلته بدلا من يُؤْتِي فلا محل له لأنه داخل في حكم الصلة، والصلات لا محل لها وإن جعلته حالا من الضمير في يُؤْتِي فمحله النصب ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ مستثنى من غير جنسه وهو النعمة أى: ما لأحد عنده نعمة إلا ابتغاء وجه ربه، كقولك: ما في الدار أحد إلا حمارا وقرأ يحيى بن وثاب، إلا ابتغاء وجه ربه بالرفع: على لغة من يقول: ما في الدار أحد إلا حمار وأنشد في اللغتين قول بشر بن أبى حازم: أضحت خلاء قفارا لا أنيس بها ... إلا الجآذر والظّلمان تختلف [[أضحت خلايا قفارا لا أنيس بها ... إلا الجاذر والظلمان تختلف رقفت فيها قلوصي كى تجاوبنى ... أو بخبر الرسم عنهم أية انصرفوا لبشر بن أبى خازم. وخلايا: جمع خلية أى خالية، والجآذر والظلمان. استثناء منقطع، لأنها لا تدخل في الأنيس. ورويا بالنصب على الاستثناء، وبالرفع على الابدال من الضمير المستكن في الخير، كما هو لغة عند تميم. والجآذر: أولاد بقر الوحش. وروى: الجوازئ، رهى الظباء التي اجتزأت بأكل الربيع عن شرب الماء. والظلمان: أولاد النعام. أو النعام نفسه. والقلوص. الفتية من الإبل المكتنزة اللحم، والضمير فيها عائد للديار. وضمير «تجاوبنى» لها أيضا. والرسم: آثار الديار. وأية: اسم استفهام منصوب بما بعده على الظرفية، لقطعه عن الاضافة، أى: صرفهم عزمهم ونيتهم. وشبه الرسم بعاقل على طريق المكنية فأسند له الاخبار تخييلا، وكذلك الدار ومجاوبتها.]] وقول القائل: وبلدة ليس بها أنيس ... إلّا اليعافير وإلّا العيس [[قد ندع المنزل يا لميس ... يعيش فيه السبع الجروس وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس لعامر بن الحرث المشهور بجران العود. ولميس: امرأة. والجروس: كثير الصوت، وبلدة- بالجر برب المقدرة بعد الواو، أى: قد نترك المنزل خاليا من أهله بقتلنا إياهم، أو لارتحالنا عنهم. واليعافير- بالرفع-: بدل من أنيس على لغة تميم في الاستثناء المنقطع بعد النفي، وإلا الثانية توكيد للأولى. واليعافير- جمع يعفور-: دابة قدر السخلة على لون الرماد. وقيل: غزال كذلك. وقيل: ولد البقرة الوحشية. والعيس: البيض من الظباء أو الإبل: جمع أعيس أو عيساء. والعيساء أيضا: أنثى الجراد، يخالط بياضها شقرة.]] ويجوز أن يكون ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ مفعولا له على المعنى، لأنّ معنى الكلام: لا يؤتى ماله إلا ابتغاء وجه ربه، لا لمكافأة نعمة وَلَسَوْفَ يَرْضى موعد بالثواب الذي يرضيه ويقرّ عينه. عن رسول الله ﷺ: «من قرأ سورة والليل، أعطاه الله حتى يرضى، وعافاه من العسر ويسر له اليسر» [[أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.]] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب