الباحث القرآني

مكية، وآياتها 36 [نزلت بعد العنكبوت، وهي آخر سورة نزلت بمكة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ التطفيف: البخس في الكيل والوزن، لأنّ ما يبخس شيء طفيف حقير. وروى أن رسول الله ﷺ قدم المدينة وكانوا من أخبث الناس كيلا، فنزلت، فأحسنوا الكيل [[أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم من رواية يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما.]] وقيل: قدمها وبها رجل يعرف بأبى جهينة ومعه صاعان: يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر [[نقله الثعلبي عن السدى.]] . وقيل: كان أهل المدينة تجارا يطففون، وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة، فنزلت فخرج رسول الله ﷺ فقرأها [[لم أجده.]] عليهم. وقال: «خمس بخمس» : قيل: يا رسول الله، وما خمس بخمس؟ قال «ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوّهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر [[أخرجه الحاكم من رواية عبد الله بن بريدة عن أبيه رفعه «ما نقض قوم العهد ... الحديث» وفيه بشر ابن المهاجر. وفيه مقال، ومن طريق عطاء بن أبى رباح عن عبد الله بن عمرو مرفوعا نحوه.]] » وعن على رضى الله عنه: أنه مر برجل يزن الزعفران وقد أرجح فقال له: أقم الوزن بالقسط، ثم أرجح بعد ذلك ما شئت. كأنه أمره بالتسوية أولا ليعتادها ويفصل الواجب من النفل. وعن ابن عباس: إنكم معشر الأعاجم وليتم أمرين: بهما هلك من كان قبلكم: المكيال والميزان، وخص الأعاجم لأنهم يجمعون الكيل والوزن جميعا وكانا مفرّقين في الحرمين: كان أهل مكة يزنون وأهل المدينة يكيلون. وعن ابن عمر أنه كان يمر بالبائع فيقول له: اتق الله وأوف الكيل، فإنّ المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن حتى إن العرق ليلجمهم. وعن عكرمة: أشهد أنّ كل كيال ووزان في النار، فقيل له: انّ ابنك كيال أو وزان، فقال: أشهد أنه في النار. وعن أبىّ رضى الله عنه: لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤس المكاييل وألسن الموازين. لما كان اكتيالهم من الناس اكتيالا يضرهم [[قال محمود: «لما كان اكتيالهم على الناس اكتيالا يضرهم ... الخ» قال أحمد: لا منافرة فيه، ولا يجعل هذا القائل الضمير دالا على مباشرة ولا إشعار أيضا فيه بذلك، إنما يكون نظم الكلام على هذا الوجه: إذا كان الكيل من جهة غيرهم استوفوه، وإذا كان الكيل من جهتهم خاصة أخسروه، سواء باشروه أولا، وهذا أنظم كلام وأحسنه والله أعلم، والذي يدلك على أن الضمير لا يعطى مباشرة الفعل أن لك أن تقول: الأمراء هم الذين يقيمون الحدود لا السوقة، ولست تعنى أنهم يباشرون ذلك بأنفسهم، وإنما معناه أن فعل ذلك من جهتهم خاصة.]] ويتحامل فيه عليهم: أبدل «على» مكان «من» للدلالة على ذلك. ويجوز أن يتعلق «على» بيستوفون، ويقدم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية، أى: يستوفون على الناس خاصة، فأما أنفسهم فيستوفون لها: وقال الفراء «من» و «على» يعتقبان في هذا الموضع، لأنه حق عليه، فإذا قال: اكتلت عليك، فكأنه قال: أخذت ما عليك، وإذا قال: اكتلت منك، فكقوله: استوفيت منك. والضمير في كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ ضمير منصوب راجع إلى الناس. وفيه وجهان: أن يراد: كالوا لهم أو وزنوا لهم، فحذف الجار وأوصل الفعل، كما قال، ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ... ولقد نهيتك عن نبات الأوبر [[«جنى لا يتعدى إلا لواحد والثاني باللام، فالأصل: جنيت لك، فحذف الجار وأوصل الضمير. أو ضمنه معنى: أبحتك، فعداه لهما. والأكمؤ: جمع كمأ، كأفلس وفلس، وهو واحد الكمأة، وهي لنوع كبير من نبات يسمى شحمة الأرض، سمى كمأة لاشتهاره بها. والعساقل: جمع عسقول كعصفور، وكان حقه: عساقيل، فحذفت الياء الوزن. وقيل: إنه جمع عسقل، وهو نوع صغير منها جيد أبيض، ونبات أوبر: نوع ردىء منها أسود مزغب، كأن عليه وبر. وقيل: هو جنس آخر يشبه القلقاس أو اللفت. ونبات أوبر: جمع ابن أوبر، لأنه علم لما لا يعقل. وأل فيه زائدة. وقال المبرد: هو اسم جنس، قال فيه معرفة، والبيت من باب التمثيل مثال؟؟؟ من أغرى على الطيب، فعدل إلى الخبيث، ثم يرجع يتندم على عاتبته.]] والحريص يصيدك لا الجواد، بمعنى: جنيت لك، ويصيد لك. وأن يكون على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، والمضاف هو المكيل أو الموزون، ولا يصح أن يكون ضميرا مرفوعا للمطففين، لأنّ الكلام يخرج به إلى نظم فاسد، وذلك أنّ المعنى: إذا أخذوا من الناس استوفوا، وإذا أعطوهم أخسروا، وإن جعلت الضمير للمطففين انقلب إلى قولك: إذا أخذوا من الناس استوفوا، وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا، وهو كلام متنافر لأنّ الحديث واقع في الفعل لا في المباشر، والتعلق في إيطاله بخط المصحف، وأنّ الألف التي تكتب بعد واو الجمع غير ثابتة فيه: ركيك، لأنّ خط المصحف لم يراع في كثير منه حدّ المصطلح عليه في علم الخط، على أنى رأيت في الكتب المخطوطة بأيدى الأئمة المتقنين هذه الألف مرفوضة لكونها غير ثابتة في اللفظ والمعنى جميعا، لأن الواو وحدها معطية معنى الجمع، وإنما كتبت هذه الألف تفرقة بين واو الجمع وغيرها في نحو قولك: هم لم يدعوا، وهو يدعو، فمن لم يثبتها قال: المعنى كاف في التفرقة بينهما. وعن عيسى بن عمر وحمزة: أنهما كانا يرتكبان ذلك، أى يجعلان الضميرين للمطففين، ويقفان عند الواوين وقيفة يبينان بها ما أرادا. فإن قلت: هلا قيل: أو اتزنوا، كما قيل أَوْ وَزَنُوهُمْ؟ قلت: كأن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة، لأنهم يدعدعون [[قوله «يدعدعون ويحتالون» في الصحاح الدعدعة تحريك المكيال ونحوه ليسعه الشيء. ودعدعت الشيء: ملأته. (ع)]] ويحتالون في الملء، وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعا يُخْسِرُونَ ينقصون. يقال: خسر الميزان [[قوله «يقال خسر الميزان» عبارة الصحاح: خسرت الشيء وأخسرته: نقصته. (ع)]] وأخسره أَلا يَظُنُّ إنكار وتعجيب عظيم من حالهم في الاجتراء على التطفيف، كأنهم لا يخطرون ببالهم ولا يخمنون تخمينا أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ومحاسبون على مقدار الذرّة والخردلة. وعن قتادة: أوف يا ابن آدم كما تحب أن يوفى لك، واعدل كما تحب أن يعدل لك. وعن الفضيل: بخس الميزان سواد الوجه يوم القيامة. وعن عبد الملك بن مروان: أن أعرابيا قال له: قد سمعت ما قال الله في المطففين: أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن. وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظن، ووصف اليوم بالعظم، وقيام الناس فيه لله خاضعين، ووصفه ذاته برب العالمين: بيان بليغ لعظم الذنب وتفاقم الإثم في التطفيف وفيما كان في مثل حاله من الحيف وترك القيام بالقسط، والعمل على السوية والعدل في كل أخذ وإعطاء، بل في كل قول وعمل. وقيل: الظنّ بمعنى اليقين، والوجه ما ذكر، ونصب يَوْمَ يَقُومُ بمبعوثون. وقرئ بالجر بدلا من لِيَوْمٍ عَظِيمٍ وعن ابن عمر أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ قوله يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ بكى نحيبا وامتنع من قراءة ما بعده.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب