وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ أى من قومه، فحذف الجار وأوصل الفعل، كقوله:
ومنّا الّذى اختير الرّجال سماحة [[ومنا الذي اختير الرجال سماحة ... وجوداً إذا هب الرياح الزعازع
المعنى: ومنا الذي اختاره الناس من بين الرجال، فالرجال نصب على نزع الخافض. وسماحة: تمييز لبيان جهة الاختيار. ووجوداً عطف عليه، إذا هب الرياح، كناية عن دخول الشتاء، فتهيج الرياح الزعازع، أى الشديدة المحركة للأشياء، وإذا جاد زمن انقطاع الميرة، فكيف بالصيف.]]
قيل اختار من اثنى عشر سبطا، من كل سبط ستة حتى تناموا اثنين وسبعين، فقال: ليتخلف منكم رجلان، فتشاحوا، فقال: إن لمن قعد منكم مثل أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع.
وروى أنه لم يصب إلا ستين شيخنا، فأوحى الله تعالى إليه أن تختار من الشبان عشرة، فاختارهم فأصبحوا شيوخا. وقيل: كانوا أبناء ما عدا العشرين، ولم يتجاوزوا الأربعين، قد ذهب عنهم الجهل والصبا، فأمرهم موسى أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم، ثم خرج بهم إلى طور سينا لميفات ربه، وكان أمره ربه أن يأتيه في سبعين من بنى إسرائيل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى ودخل فيه وقال للقوم: ادنوا، فدنوا، حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجدا، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل، ولا تفعل.
ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه، فطلبوا الرؤية فوعظهم وزجرهم وأنكر عليهم، فقالوا: يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. فقال: رب أرنى أنظر إليك، يريد: أن يسمعوا الردّ والإنكار من جهته، فأجيب بلن تراني، ورجف بهم الجبل فصعقوا. ولما كانت الرجعة قالَ موسى رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ وهذا تمنّ منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأى من تبعة طلب الرؤية، كما يقول النادم على الأمر إذا رأى سوء المغبة: لو شاء الله لأهلكنى قبل هذا أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا يعنى أتهلكنا جميعاً. يعنى نفسه وإياهم، لأنه إنما طلب الرؤية زجراً للسفهاء، وهم طلبوها سفها وجهلا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ أى محنتك وابتلاؤك حين كلمتنى وسمعوا كلامك، فاستدلوا بالكلام على الرؤية استدلالا فاسداً، حتى افتتنوا وضلوا تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ تضلّ بالمحنة الجاهلين غير الثابتين في معرفتك، وتهدى العالمين بك الثابتين بالقول الثابت. وجعل ذلك إضلالا من الله وهدى منه، لأن محنته لما كانت سبباً [[قوله «لأن محنته لما كانت سببا» صرف الكلام عن ظاهره، لأنه تعالى لا يخلق الشر عندهم. أما على مذهب أهل السنة فلا حاجة إلى ذلك. (ع)]] لأن ضلوا واهتدوا فكأنه أضلهم بها وهداهم على الاتساع في الكلام أَنْتَ وَلِيُّنا مولانا القائم بأمورنا وَاكْتُبْ لَنا وأثبت لنا واقسم فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً عافية وحياة طيبة وتوفيقاً في الطاعة وَفِي الْآخِرَةِ الجنة هُدْنا إِلَيْكَ تبنا إليك. وهاد اليه يهود إذا رجع وتاب. والهود: جمع هائد، وهو التائب. ولبعضهم:
يا راكب الذّنب هدهد ... واسجد كأنّك هدهد [[للزمخشري، شبه ملازمته للذنب بملازمة الراكب للمركوب. وهاد يهود، إذا تاب ورجع. وهد: أمر منه، وكرر للتوكيد. ثم قال: واسجد كأنك هدهد، فشبهه به لكثرة ما يطرق برأسه إلى الأرض لا في السرعة، فالمعنى: اسجد كثيراً.]]
وقرأ أبو وجرة السعدي: هدنا إليك، بكسر الهاء، من هاده يهيده إذا حرّكه وأماله. ويحتمل أمرين، ان يكون مبنيا للفاعل والمفعول بمعنى حركنا إليك أنفسنا وأملناها أو حرّكنا إليك وأملنا على تقدير: فعلنا، كقولك: عدت يا مريض بكسر العين، فعلت من العيادة. ويجوز: عدت بالإشمام.
وعدت، بإخلاص الضمة فيمن قال: عود المريض. وقول القول. ويجوز على هذه اللغة أن يكون هُدْنا بالضم فعلنا من هاده يهيده عَذابِي من حاله وصفته أنى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ أى من وجب علىّ في الحكمة [[قوله «أى من وجب على في الحكمة» هذا عند المعتزلة. وأما أهل السنة فلا يجب على الله تعالى عندهم شيء. (ع)]] تعذيبه، ولم يكن في العفو عنه مساغ لكونه مفسدة. وأمّا رَحْمَتِي فمن حالها وصفتها أنها واسعة تبلغ كل شيء، ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في نعمتي. وقرأ الحسن: من أساء، من الإساءة. فسأكتب هذه الرحمة كتبة خاصة منكم يا بنى إسرائيل للذين يكونون في آخر الزمان من أمّة محمد ﷺ، الذين هم بجميع آياتنا وكتبنا يؤمنون، لا يكافرون بشيء منها الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ الذي نوحى إليه كتاباً مختصاً به وهو القرآن النَّبِيَّ صاحب المعجزات الَّذِي يَجِدُونَهُ يجد نعته أولئك الذين يتبعونه من بنى إسرائيل مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ...... وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ ما حرّم عليهم من الأشياء الطيبة، كالشحوم وغيرها. أو ما طاب في الشريعة والحكم، مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح، وما خلى كسبه من السحت وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ما يستخبث من نحو الدم والميتة ولحم الخنزير، وما أهلّ لغير الله به أو ما خبث في الحكم، كالربا والرشوة وغيرهما من المكاسب الخبيئة. الإصر: الثقل الذي يأصر صاحبه، أى يحبسه من الحراك لثقله وهو مثل لثقل تكليفهم وصعوبته، نحو اشتراط قتل الأنفس في صحة توبتهم. وكذلك الأغلال، مثل لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة، نحو: بت القضاء بالقصاص عمداً كان أو خطأ من غير شرع الدية، وقطع الأعضاء الخاطئة، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب.
وإحراق الغنائم، وتحريم العروق في اللحم، وتحريم السبت. وعن عطاء: كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلى لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم. وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة. وقرئ آصارهم، على الجمع وَعَزَّرُوهُ ومنعوه حتى لا يقوى عليه عدوّ. وقرئ بالتخفيف. وأصل العزر: المنع. ومنه التعزير للضرب دون الحدّ، لأنه منع عن معاودة القبيح. ألا ترى إلى تسمية الحدّ، والحدّ هو المنع. والنُّورَ القرآن. فإن قلت: ما معنى قوله أُنْزِلَ مَعَهُ وإنما أنزل مع جبريل؟
قلت: معناه أنزل مع نبوّته، لأنّ استنباءه كان مصحوباً بالقرآن مشفوعا به. ويجوز أن يعلق باتبعوا. أى: واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته وبما أمر به ونهى عنه.
أو واتبعوا القرآن كما اتبعه مصاحبين له في اتباعه. فإن قلت: كيف انطبق هذا الجواب على قول موسى عليه السلام ودعائه؟ قلت: لما دعا لنفسه ولبنى إسرائيل، أجيب بما هو منطو على توبيخ بنى إسرائيل على استجازتهم الرؤية على الله تعالى وعلى كفرهم بآيات الله العظام التي أجراها على يد موسى، وعرّض بذلك في قوله وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ وأريد أن يكون استماع أوصاف أعقابهم الذين آمنوا برسول الله ﷺ وما جاء به كعبد الله بن سلام وغيره من أهل الكتابين، لطفاً لهم وترغيباً في إخلاص الإيمان والعمل الصالح، وفي أن يحشروا معهم ولا يفرّق بينهم وبين أعقابهم عن رحمة الله [[قوله «عن رحمة الله» لعله «في رحمة الله» . أو ضمن التفريق معنى الابعاد، فعدى بعن. (ع)]] التي وسعت كل شيء.
{"ayahs_start":155,"ayahs":["وَٱخۡتَارَ مُوسَىٰ قَوۡمَهُۥ سَبۡعِینَ رَجُلࣰا لِّمِیقَـٰتِنَاۖ فَلَمَّاۤ أَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ قَالَ رَبِّ لَوۡ شِئۡتَ أَهۡلَكۡتَهُم مِّن قَبۡلُ وَإِیَّـٰیَۖ أَتُهۡلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَاۤءُ مِنَّاۤۖ إِنۡ هِیَ إِلَّا فِتۡنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاۤءُ وَتَهۡدِی مَن تَشَاۤءُۖ أَنتَ وَلِیُّنَا فَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَاۖ وَأَنتَ خَیۡرُ ٱلۡغَـٰفِرِینَ","۞ وَٱكۡتُبۡ لَنَا فِی هَـٰذِهِ ٱلدُّنۡیَا حَسَنَةࣰ وَفِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ إِنَّا هُدۡنَاۤ إِلَیۡكَۚ قَالَ عَذَابِیۤ أُصِیبُ بِهِۦ مَنۡ أَشَاۤءُۖ وَرَحۡمَتِی وَسِعَتۡ كُلَّ شَیۡءࣲۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِینَ یَتَّقُونَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِینَ هُم بِـَٔایَـٰتِنَا یُؤۡمِنُونَ","ٱلَّذِینَ یَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِیَّ ٱلۡأُمِّیَّ ٱلَّذِی یَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِی ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِیلِ یَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَیَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَیُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّیِّبَـٰتِ وَیُحَرِّمُ عَلَیۡهِمُ ٱلۡخَبَـٰۤىِٕثَ وَیَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَـٰلَ ٱلَّتِی كَانَتۡ عَلَیۡهِمۡۚ فَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُوا۟ ٱلنُّورَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ مَعَهُۥۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ"],"ayah":"وَٱخۡتَارَ مُوسَىٰ قَوۡمَهُۥ سَبۡعِینَ رَجُلࣰا لِّمِیقَـٰتِنَاۖ فَلَمَّاۤ أَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ قَالَ رَبِّ لَوۡ شِئۡتَ أَهۡلَكۡتَهُم مِّن قَبۡلُ وَإِیَّـٰیَۖ أَتُهۡلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَاۤءُ مِنَّاۤۖ إِنۡ هِیَ إِلَّا فِتۡنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاۤءُ وَتَهۡدِی مَن تَشَاۤءُۖ أَنتَ وَلِیُّنَا فَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَاۖ وَأَنتَ خَیۡرُ ٱلۡغَـٰفِرِینَ"}