يقال: جنبه الشر إذا أبعده عنه، وحقيقته: جعله منه في جانب، فيعدى إلى مفعولين.
قال الله عز وجل وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ثم يقال في مطاوعه: اجتنب الشر فتقص المطاوعة مفعولا، والمأمور باجتنابه هو بعض الظن، وذلك البعض موصوف بالكثرة: ألا ترى إلى قوله إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ؟ فإن قلت: بين الفصل بين كَثِيراً، حيث جاء نكرة وبينه لو جاء معرفة. قلت: مجيئه نكرة يفيد معنى البعضية، وإنّ في الظنون ما يجب أن يجتنب من غير تبيين لذلك ولا تعيين، لئلا يجترئ أحد على ظنّ إلا بعد نظر وتأمّل، وتمييز بين حقه وباطله بأمارة بينة، مع استشعار للتقوى والحذر، ولو عرف لكان الأمر باجتناب الظنّ منوطا بما يكثر منه دون ما يقل، ووجب أن يكون كل ظنّ متصف بالكثرة مجتنبا، وما اتصف منه بالقلة مرخصا في تظننه. والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها: أنّ كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر: كان حراما واجب الاجتناب، وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة في الظاهر، فظنّ الفساد والخيانة به محرّم، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث. عن النبي ﷺ:
«إن الله تعالى حرّم من المسلم دمه وعرضه وأن يظنّ به ظنّ السوء» [[أخرجه ابن ماجة. من حديث ابن عمر بإسناد فيه لين، ولفظه «رأيت رسول الله ﷺ يطوف بالكعبة وهو يقول: ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك: ماله ودمه وأن يظن به إلا خيرا» وروى ابن أبى شيبة من طريق مجالد عن الشعبي عن ابن عباس أن النبي ﷺ نظر إلى الكعبة فقال «ما أعظمك وأعظم حرمتك والمسلم أعظم حرمة منك. حرم الله دمه وماله وعرضه، وأن يظن به ظن السوء. وروى البيهقي في الشعب من طريق مجاهد عن ابن عباس نحوه. وفيه حفص بن عبد الرحمن.]] وعن الحسن: كنا في زمان الظن بالناس حرام، وأنت اليوم في زمان اعمل واسكت، وظنّ بالناس ما شئت.
وعنه: لا حرمة لفاجر. وعنه: إن الفاسق إذا أظهر فسقه وهتك ستره هتكه الله، وإذا استتر لم يظهر الله عليه لعله أن يتوب. وقد روى: من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له [[أخرجه البيهقي في الشعب في التاسع والستين والقضاعي في مسند الشهاب من طريق رواه بن الجراح عن أبى سعد الساعدي عن أنس وإسناده ضعيف. وأخرجه ابن عدى من رواية الربيع بن بدر عن أبان عن أنس وإسناده أضعف من الأول.]] .
والإثم: الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب. ومنه قيل لعقوبته: الأثام، فعال منه: كالنكال والعذاب والوبال. قال:
لقد فعلت هذى النّوى بى فعلة ... أصاب النّوى قبل الممات أثامها [[النوى: نية المسافر من قرب أو بعد، فهي مؤنثة، وتستعمل اسم جمع نية، فيذكر: أى لقد فعلت في هذه النية فعلة مسيئة، فهي بمعنى في، ثم دعا عليها بقوله: أصاب النوى التي أذتنى أثامها، أى: جزاء تلك الفعلة.
أو جزاء النوى التي تستحقه. وقد يسمى الذنب إثما وأثاما، من إطلاق المسبب على السبب، وقال قبل الممات، أى: قبل موته ليتشفى فيها، فكأنه شبهها بعدو، ثم دعا عليها.]]
والهمزة فيه عن الواو، كأنه يثم الأعمال: أى يكسرها بإحباطه. وقرئ: ولا تحسسوا بالحاء والمعنيان متقاربان. يقال: تجسس الأمر إذا تطلبه وبحث عنه: تفعل من الجس، كما أن التلمس بمعنى التطلب من اللمس، لما في اللمس من الطلب. وقد جاء بمعنى الطلب في قوله تعالى وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ والتحسس: التعرّف من الحس، ولتقاربهما قيل لمشاعر الإنسان: الحواس بالحاء والجيم، والمراد النهى عن تتبع عورات المسلمين ومعايبهم والاستكشاف عما ستروه. وعن مجاهد. خذوا ما ظهر ودعوا ما ستره الله. وعن النبي ﷺ، أنه خطب فرفع صوته حتى أسمع العواتق في خدورهنّ. قال: يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه، لا تتبعوا عورات المسلمين: فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته [[أخرجه الطبراني والعقيلي. وابن عدى من رواية قدامة بن محمد الأشجعى عن إسماعيل بن شبيب الطائفي عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس بهذا وفي الباب عن ابن عمر رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه ولفظه «صعد النبي ﷺ المنبر فنادى بصوت رفيع: قال يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الايمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فانه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه، ولو في جوف رحله» وعن أبى بردة عند أبى داود وأحمد والطبراني وأبى يعلى وعن البراء بن عازب عند أبى يعلى والبيهقي في الشعب في التاسع والستين من رواية مصعب بن سلام عن أبى إسحاق عن البراء. وعن ثوبان عند أحمد بلفظ «لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم ولا تطلبوا عوراتهم فانه من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته» وعن بريدة عند الطبراني وابن مردويه ولفظه «صلينا الظهر خلف النبي ﷺ فلما انفتل أقبل علينا غضبان فنادى بصوت أسمع العواتق في جوف الخدور فذكر نحوه.]] . وعن زيد بن وهب: قلنا لا بن مسعود: هل لك في الوليد بن عقبة ابن أبى معيط تقطر لحيته خمرا؟ فقال ابن مسعود: إنا قد نهينا عن التجسس، فإن ظهر لنا شيء أخذنا به [[أخرجه أبو داود وابن أبى شيبة وعبد الرزاق والطبراني والبيهقي في الشعب في الثاني والخمسين من طرق عن الأعمش عن زيد بن وهب قال «أتى ابن مسعود قيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمرا» لفظ أبى داود والباقين نحوه. ورواه الحاكم والبزار من رواية أسباط عن الأعمش فقال فيه «إن رسول الله ﷺ نهانا عن التجسس» قال البزار تفرد به أسباط وقال ابن أبى حاتم عن أبى زرعة والترمذي عن البخاري: أخطأ فيه أسباط.
والصحيح من رواية أبى معاوية وغيره عن الأعمش «إن الله نهانا»]] . غابه واغتابه: كغاله واغتاله. والغيبة من الاغتياب، كالغيلة من [[قوله «كالغيلة من الاغتيال» كذا في الصحاح. وفيه يقال: قتله غيلة، وهو أن يخدعه فيذهب به إلى موضع فيقتله فيه. (ع)]] الاغتيال:
وهي ذكر السوء في الغيبة. سئل رسول الله ﷺ عن الغيبة فقال: «أن تذكر أخاك بما يكره، فإن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته» [[متفق عليه من حديث أبى هريرة.]] وعن ابن عباس رضى الله عنهما: الغيبة إدام كلاب الناس أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه. وفيه مبالغات شتى: منها الاستفهام الذي معناه التقرير.
ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة. ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحدا من الأحدين لا يحب ذلك. ومنها أن لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، حتى جعل الإنسان أخا. ومنها أن لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعل ميتا. وعن قتادة:
كما تكره إن وجدت جيفة مدوّدة أن تأكل منها، كذلك فاكره لحم أخيك وهو حى. وانتصب مَيْتاً على الحال من اللحم. ويجوز أن ينتصب عن الأخ. وقرئ: ميتا. ولما قرّرهم عز وجل بأنّ أحدا منهم لا يحب أكل جيفة أخيه، عقب ذلك بقوله تعالى فَكَرِهْتُمُوهُ معناه: فقد كرهتموه واستقرّ ذلك. وفيه معنى الشرط، أى: إن صحّ هذا فكرهتموه، وهي الفاء الفصيحة، أى: فتحققت- بوجوب الإقرار عليكم وبأنكم لا تقدرون على دفعه وإنكاره، لإباء البشرية عليكم أن تجحدوه- كراهتكم له وتقذركم منه، فليتحقق أيضا أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة والطعن في أعراض المسلمين. وقرئ: فكرهتموه. أى: جبلتم على كراهته. فإن قلت: هلا عدّى بإلى كما عدّى في قوله وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وأيهما القياس؟ قلت: القياس تعدّيه بنفسه، لأنه ذو مفعول واحد قبل تثقيل حشوه، تقول: كرهت الشيء، فإذا ثقل استدعى زيادة مفعول. وأما تعدّيه بإلى، فتأوّل وإجراء لكره مجرى بغض، لأنّ بغض منقول من بغض إليه الشيء فهو بغيض إليه، كقولك: حب إليه الشيء فهو حبيب إليه. والمبالغة في التواب للدلالة على كثرة من يتوب عليه من عباده، أو لأنه ما من ذنب يقترفه المقترف إلا كان معفوا عنه بالتوبة. أو لأنه بليغ في قبول التوبة، منزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط، لسعة كرمه.
والمعنى: واتقوا الله بترك ما أمرتم باجتنابه والندم على ما وجد منكم منه، فإنكم إن اتقيتم تقبل الله توبتكم وأنعم عليكم بثواب المتقين التائبين. وعن ابن عباس: أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوّى لهما طعامهما، فنام عن شأنه يوما، فبعثاه إلى رسول الله ﷺ يبغى لهما إداما، وكان أسامة على طعام رسول الله ﷺ فقال: ما عندي شيء، فأخبرهما سلمان بذلك، فعند ذلك قالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها، فلما راحا إلى رسول الله ﷺ قال لهما: مالى أرى خضرة اللحم في أفواهكما، فقالا: ما تناولنا لحما فقال: إنكما قد اغتبتما [[هكذا ذكره الثعلبي وربيعة بغير سند ولا راو. وفي الترغيب لأبى القاسم الأصبهانى من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبى ليلة نحوه.]] فنزلت.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱجۡتَنِبُوا۟ كَثِیرࣰا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمࣱۖ وَلَا تَجَسَّسُوا۟ وَلَا یَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَیُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن یَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِیهِ مَیۡتࣰا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابࣱ رَّحِیمࣱ"}