الباحث القرآني

وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وتوبوا إليه وَأَسْلِمُوا لَهُ وأخلصوا له العمل، وإنما ذكر الإنابة على أثر المغفرة لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة، وللدلالة على أنها شرط فيها لازم لا تحصل بدونه وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مثل قوله الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ. وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أى يفجؤكم وأنتم غافلون، كأنكم لا تخشون شيئا لفرط غفلتكم وسهوكم أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ كراهة أن تقوّل. فإن قلت: لم نكرت؟ قلت: لأنّ المراد بها بعض الأنفس، وهي نفس الكافر. ويجوز أن يراد: نفس متميزة من الأنفس: إما بلجاج في الكفر شديد. أو بعذاب عظيم. ويجوز أن يراد التكسير، كما قال الأعشى: وربّ بقيع لو هتفت بحوه ... أتانى كريم ينفض الرّأس مغضبا [[دعا قومه حولي فجاءوا لنصره ... وناديت قوما بالمسناة غيبا ورب بقيع لو هتفت بحوه ... أتانى كريم ينفض الرأس مغضبا للأعشى وقيل: لأبى عمرو بن العلاء، يصف قومه بالجبن حتى كأنهم أموات مقبورون، صارت الأحجار مسناة فوقهم. وسنيت الشيء سهلته، أى: منعمة مملسة. أو بالية مفتتة. ويجوز أن أصله مسننة، فقلبت النون الثانية ألفا. وسننت الحجر حددته وملسته. وفي وصف القبور بذلك مبالغة في وصف قومه بالجبن، بل هم دون تلك الأموات، فرب بقيع: أى موضع فيه أروم الشجر من ضروب شتى، والمراد مقبرة، لا بقيع الغرقد بالغين وهو مقبرة المدينة بعينها، لو هتفت بحوه، أى: ناديت شجاعهم لجاءنى كريم ينفض رأسه من تراب القبر. أو من الغضب لما نالني من المكروه، وليس المراد كريما واحدا، بل كرماء كثيرة بمعونة المقام. والحو- بالمهملة-: الشجاع، وبالمعجمة: العسل، وبالجيم: ما غلظ وارتفع من الأرض.]] وهو بريد: أفواجا من الكرام ينصرونه، لا كريما واحدا. ونظيره: ربّ بلد قطعت، ورب بطل قارعت. وقد اختلس الطعنة ولا يقصد إلا التكسير. وقرئ: يا حسرتى، على الأصل. ويا حسرتاى، على الجمع بين العوض والمعوّض منه. والجنب: الجانب، يقال: أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته، وفلان لين الجنب والجانب، ثم قالوا: فرّط في جنبه وفي جانبه، يريدون في حقه. قال سابق البربري: أما تتّقين الله في جنب وامق ... له كبد حرّى عليك تقطّع [[أما تتقين الله في جنب وامق ... له كبد حرى عليك تقطع غريب مشوق مولع بادكاركم ... وكل غريب الدار بالشوق مولع لجميل بن معمر يستعطف صاحبته بثينة ويتوجع إليها مما نابه فيها، أى: أما تخافين الله في جنب وامق، أى: في حقه الواجب عليك، فالجنب: كناية عن ذلك. والوامق: الشديد المحبة، يعنى نفسه. وحرى: أى ذات حر واحتراق. وتقطع: أصله تتقطع، والادكار: أصله الاذتكار، قلبت تاؤه دالا مهملة، وأدغمت الذال المعجمة فيها، وخاطبها خطاب جمع المذكر تعظيما. وفي البيت رد العجز على الصدر، وهو من بديع الكلام.]] وهذا من باب الكناية، لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه، فقد أثبته فيه. ألا ترى إلى قوله: إنّ السّماحة والمروءة والنّدى ... في قبّة ضربت على ابن الحشرج [[لزيادة الأعجم يمدح عبد الله بن الحشرج أمير نيسابور، وهو من باب الكناية التي قصد بها النسبة، يعنى أنه مختص بهذه الصفات لا توجد في غيره، ولا خيمة هناك ولا ضرب أصلا.]] ومنه قول الناس: لمكانك فعلت كذا، يريدون: لأجلك. وفي الحديث: «من الشرك الخفىّ أن يصلى الرجل لمكان الرجل» [[أخرجه أحمد وإسحاق والبزار والحاكم والبيهقي. من رواية ربيح بن عبد الرحمن بن أبى سعيد عن أبيه عن جده قال» خرج علينا رسول الله ﷺ يوما. ونحن نتذاكر الدجال. فقال غير الدجال أخوف عليكم: الشرك الخفي: أن يعمل الرجل لمكان الرجل» لفظ الحاكم.]] وكذلك: فعلت هذا من جهتك. فمن حيث لم يبق فرق فيما يرجع إلى أداء الغرض بين ذكر المكان وتركه: قيل فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ على معنى: فرطت في ذات الله. فإن قلت: فمرجع كلامك إلى أن ذكر الجنب كلا ذكر سوى ما يعطى من حسن الكناية وبلاغتها، فكأنه قيل: فرّطت في الله. فما معنى فرّطت في الله؟ قلت: لا بدّ من تقدير مضاف محذوف، سواء ذكر الجنب أو لم يذكر: والمعنى: فرّطت في طاعة الله وعبادة الله، وما أشبه ذلك. وفي حرف عبد الله وحفصة: في ذكر الله. وما في ما فرّطت مصدرية مثلها في بِما رَحُبَتْ، وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ قال قتادة: لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها، ومحل وَإِنْ كُنْتُ النصب على الحال، كأنه قال: فرّطت وأنا ساخر، أى: فرّطت في حال سخريتي. وروى أنه كان في بنى إسرائيل عالم ترك علمه وفسق. وأتاه إبليس وقال له: تمتع من الدنيا ثم تب، فأطاعه، وكان له مال فأنفقه في الفجور، فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان فقال: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، ذهب عمرى في طاعة الشيطان، وأسخطت ربى فندم حين لم ينفعه الندم، فأنزل الله خبره في القرآن لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لا يخلو: إما أن يريد الهداية [[قوله «لا يخلو إما أن يريد به الهداية» تمحل لتطبيق الآية على مذهب المعتزلة، ولكن خلق الهداية لا يصل إلى حد الإلجاء، لأنه لا يسلب الاختيار عند أهل السنة، كخلق التقوى والطاعة وغيرها من الأفعال الاختيارية، لما أثبتوه للعبد من الكسب فيها وإن كان فاعلها في الحقيقة هو الله تعالى، كما تقرر في علم التوحيد. (ع)]] بالإلجاء أو بالألطاف أو بالوحي، فالإلجاء خارج عن الحكمة، ولم يكن من أهل الألطاف فيلطف به. وأما الوحى فقد كان، ولكنه عرض ولم يتبعه حتى يهتدى، وإنما يقول هذا تحيرا في أمره وتعللا بما لا يجدى عليه، كما حكى عنهم التعلل بإغواء الرؤساء والشياطين ونحو ذلك ونحوه لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ وقوله بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي ردّ من الله عليه، معناه: بلى قد هديت بالوحي فكذبت به واستكبرت عن قبوله، وآثرت الكفر على الإيمان، والضلالة على الهدى. وقرئ بكسر التاء [[قوله «وقرئ بكسر التاء» لعل من كسرها كسر الكاف أيضا. (ع)]] على مخاطبة النفس. فإن قلت: هلا قرن الجواب بما هو جواب له، وهو قوله لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي ولم يفصل بينهما بآية؟ قلت: لأنه لا يخلو: إما أن يقدّم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن. وإما أن تؤخر القرينة الوسطى، فلم يحسن الأوّل لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن. وأما الثاني فلما فيه من نقص الترتيب وهو التحسر على التفريط في الطاعة، ثم التعلل بفقد الهداية، تم تمنى الرجعة فكان الصواب ما جاء عليه، وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب. فإن قلت: كيف صح أن تقع بلى جوابا لغير منفي؟ قلت: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي فيه معنى: ما هديت.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب