الباحث القرآني

عن ابن مسعود رضى الله عنه: أنّ أصحاب رسول الله ﷺ ملوا ملة، فقالوا له: حدثنا فنزلت، وإيقاع اسم الله مبتدأ وبناء نَزَّلَ عليه: فيه تفخيم لأحسن الحديث، ورفع منه، واستشهاد على حسنه، وتأكيد لاستناده إلى الله وأنه من عنده، وأن مثله لا يجوز أن يصدر إلا عنه، وتنبيه على أنه وحى معجز مباين لسائر الأحاديث. وكِتاباً بدل من أحسن الحديث. ويحتمل أن يكون حالا منه ومُتَشابِهاً مطلق في مشابهة بعضه بعضا، فكان متناولا لتشابه معانيه في الصحة والإحكام، والبناء على الحق والصدق ومنفعة الخلق، وتناسب ألفاظه وتناصفها في التخير والإصابة، وتجاوب نظمه وتأليفه في الإعجاز والتبكيت، ويجوز أن يكون مَثانِيَ بيانا لكونه متشابها، لأن القصص المكررة لا تكون إلا متشابهة. والمثاني جمع مثنى بمعنى مردّد ومكرّر، ولما ثنى من قصصه وأنبائه، وأحكامه، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، ومواعظه. وقيل: لأنه يثنى في التلاوة، فلا يمل كما جاء في وصفه لا يتفه ولا يتشان [[قوله «لا يتفه ولا يتشان» في الصحاح «التافه» : الحقير اليسير: وفيه تشانت القربة: أخلقت، وتشان الجلد: يبس وتشنج. (ع)]] ولا يخلق على كثرة الرّد. ويجوز أن يكون جمع مثنى مفعل، من التثنية بمعنى التكرير. والإعادة كما كان قوله تعالى ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ بمعنى كرّة بعد كرّة، وكذلك: لبيك وسعديك، وحنانيك. فإن قلت: كيف وصف الواحد بالجمع؟ قلت: إنما صحّ ذلك لأنّ الكتاب جملة ذات تفاصيل، وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير. ألا تراك تقول: القرآن أسباع وأخماس، وسور وآيات، وكذلك تقول: أقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات، ونظيره قولك: الإنسان عظام وعروق وأعصاب، إلا أنك تركت الموصوف إلى الصفة، وأصله: كتابا متشابها فصولا مثاني. ويجوز أن يكون كقولك: برمة أعشار، وثوب أخلاق. ويجوز أن لا يكون مثاني صفة، ويكون منتصبا على التمييز من متشابها، كما تقول: رأيت رجلا حسنا شمائل، والمعنى: متشابهة مثانيه. فإن قلت: ما فائدة التثنية والتكرير؟ قلت، النفوس أنفر شيء عن حديث الوعظ والنصيحة، فما لم يكرر عليها عودا عن بدء لم يرسخ فيها ولم يعمل عمله، ومن ثم كانت عادة رسول الله ﷺ أن يكرر عليهم ما كان يعظ به وينصح ثلاث مرات وسبعا، [[لم أجده. وفي البخاري عن أنس رضى الله عنه «كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا- الحديث» وزاد أحمد «وكان يستأذن ثلاثا» .]] ليركزه في قلوبهم ويغرسه في صدورهم. اقشعر الجلد: إذا تقبض تقبضا شديدا، وتركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس، مضموما إليها حرف رابع وهو الراء، ليكون رباعيا ودالا على معنى زائد. يقال: اقشعر جلده من الخوف وقف شعره، [[قوله «وقف شعره» أى: قام من الفزع، كذا في الصحاح. (ع)]] وهو مثل في شدّة الخوف، فيجوز أن يريد به الله سبحانه التمثيل، تصويرا لإفراط خشيتهم، وأن يريد التحقيق. والمعنى: أنهم إذا سمعوا بالقرآن وبآيات وعيده: أصابتهم خشية تقشعر منها جلودهم، ثم إذا ذكروا الله ورحمته وجوده بالمغفرة: لانت جلودهم وقلوبهم وزال عنها ما كان بها من الخشية والقشعريرة. فإن قلت: ما وجه تعدية «لان» بإلى؟ قلت: ضمن معنى فعل متعدّ بإلى، كأنه قيل: سكنت. أو اطمأنت إلى ذكر الله لينة غير متقبضة، راجية غير خاشية. فإن قلت: لم اقتصر على ذكر الله من غير ذكر الرحمة؟ قلت: لأنّ أصل أمره الرحمة والرأفة، ورحمته هي سابقة غصبه، فلأصالة رحمته إذا ذكر لم يخطر بالبال قبل كل شيء من صفاته إلا كونه رءوفا رحيما. فإن قلت: لم ذكرت الجلود وحدها أوّلا، ثم قرنت بها القلوب ثانيا؟ قلت: إذا ذكرت الخشية التي محلها القلوب، فقد ذكرت القلوب، فكأنه قيل: تقشعر جلودهم من آيات الوعيد، وتخشى قلوبهم في أوّل وهلة، فإذا ذكروا الله ومبنى أمره على الرأفة والمرحمة: استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم، وبالقشعريرة لينا في جلودهم ذلِكَ إشارة إلى الكتاب، وهو هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ يوفق به من يشاء، يعنى: عباده المتقين، حتى يخشوا تلك الخشية ويرجوا ذلك الرجاء، كما قال: هدى للمتقين وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ ومن يخذله من الفساق [[قوله «ومن يخذله من الفساق» تأويل الضلال بذلك مبنى على مذهب المعتزلة أن الله لا يخلق الشر. وعند أهل السنة: أنه يخلقه كالخير، فالاضلال: خلق الضلال في القلب. (ع)]] والفجرة فَما لَهُ مِنْ هادٍ أو ذلك الكائن من الخشية والرجاء هدى الله، أى: أثر هداه وهو لطفه، فسماه هدى لأنه حاصل بالهدى يَهْدِي بِهِ بهذا الأثر من يشاء من عباده، يعنى: من صحب أولئك ورءاهم خاشين راجين، فكان ذلك مرغبا لهم في الاقتداء بسيرتهم وسلوك طريقتهم وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ: ومن لم يؤثر فيه ألطافه لقسوة قلبه وإصراره على فجوره، فَما لَهُ مِنْ هادٍ من مؤثر فيه بشيء قط.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب