الباحث القرآني

فلما بلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه. فإن قلت: مَعَهُ بم يتعلق؟ قلت: لا يخلو إما أن يتعلق ببلغ، أو بالسعي، أو بمحذوف، فلا يصح تعلفه ببلغ لاقتضائه بلوغهما معا حدّ السعى، ولا بالسعي لأنّ صلة المصدر لا تتقدم عليه، فبقى أن يكون بيانا، كأنه لما قال: فلما بلغ السعى أى الحدّ الذي يقدر فيه على السعى قيل: مع من؟ فقال مع أبيه. والمعنى في اختصاص الأب أنه أرفق الناس به، وأعطفهم عليه، وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله، لأنه لم تستحكم قوته ولم يصلب عوده، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة. والمراد: أنه على غضاضة سنه وتقلبه في حد الطفولة، كان فيه من رصانة الحلم وفسحة الصدر ما جسره على احتمال تلك البلية العظيمة والإجابة بذلك الجواب الحكيم: أتى في المنام فقيل له: اذبح ابنك، ورؤيا الأنبياء وحى كالوحى في اليقظة، فلهذا قال إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فذكر تأويل الرؤيا، كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب في سفينة: رأيت في المنام أنى ناج من هذه المحنة، وقيل: رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول له: إنّ الله يأمرك بذبح ابنك هذا، فلما أصبح روّى في ذلك من الصباح إلى الرواح، أمن الله هذا الحلم أو من الشيطان؟ فمن ثم سمى يوم التروية، فلما أمسى رأى مثل ذلك، فعرف أنه من الله، فمن ثم سمى يوم عرفة، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة، فهم بنحره فسمى اليوم يوم النحر. وقيل: إنّ الملائكة حين بشرته بغلام حليم قال: هو إذن ذبيح الله. فلما ولد وبلغ حد السعى معه قيل له: أوف بنذرك فَانْظُرْ ماذا تَرى من الرأى على وجه المشاورة. وقرئ: ماذا ترى [[قوله «وقرئ ماذا ترى» لعله بضم التاء وكسر الراء، من أراه يريه، فليحرر. (ع)]] ، أى: ماذا تبصر من رأيك وتبديه. وماذا ترى، على البناء للمفعول، أى: ماذا تريك نفسك من الرأى افْعَلْ ما تُؤْمَرُ أى ما تؤمر به، فحذف الجار كما حذف من قوله: أمرتك الخير فافعل ما أمرت به [[تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 590 فراجعه إن شئت اه مصححه.]] أو أمرك على إضافة المصدر إلى المفعول، وتسمية المأمور به أمرا. وقرئ: ما تؤمر به. فإن قلت: لم شاوره في أمر هو حتم من الله؟ قلت: لم يشاوره ليرجع إلى رأيه ومشورته، ولكن ليعلم ما عنده فيما نزل به من بلاء الله، فيثبت قدمه ويصبره إن جزع، ويأمن عليه الزلل إن صبر وسلم، وليعلمه حتى يراجع نفسه فيوطنها ويهون عليها، ويلقى البلاء وهو كالمستأنس به، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله قبل نزوله: ولأنّ المغافصة [[قوله «المغافصة» في الصحاح: غافصت الرجل، أى: أخذته على غرة. (ع)]] بالذبح مما يستسمج، وليكون سنة في المشاورة، فقد قيل: لو شاور آدم الملائكة في أكله من الشجرة لما فرط منه ذلك. فإن قلت: لم كان ذلك بالمنام دون اليقظة؟ قلت: كما أرى يوسف عليه السلام سجود أبويه وإخوته له في المنام من غير وحى إلى أبيه، وكما وعد رسول الله ﷺ دخول المسجد الحرام في المنام، وما سوى ذلك من منامات الأنبياء، وذلك لتقوية الدلالة على كونهم صادقين مصدوقين، لأنّ الحال إما حال يقظة أو حال منام، فإذا تظاهرت الحالتان على الصدق كان ذلك أقوى للدلالة من انفراد أحدهما.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب