أمره بأن يقررهم بقوله مَنْ يَرْزُقُكُمْ ثم أمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله:
يرزقكم الله. وذلك للإشعار بأنهم مقرّون به بقلوبهم، إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به، لأن الذي تمكن في صدورهم من العناد وحب الشرك قد ألجم أفواههم عن النطق بالحق مع علمهم بصحته، ولأنهم إن تفوهوا بأن الله رازقهم: لزمهم أن يقال لهم: فما لكم لا تعبدون من يرزقكم وتؤثرن عليه من لا يقدر على الرزق، ألا ترى إلى قوله قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ حتى قال: فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ثم قال فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فكأنهم كانوا يقرّون بألسنتهم مرّة، ومرّة كانوا يتلعثمون عنادا وضرارا وحذارا من إلزام الحجة، ونحوه قوله عزّ وجلّ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وأمره أن يقول لهم بعد الإلزام والإلجام الذي إن لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ومعناه: وإنّ أحد الفريقين من الذين يتوحدون الرازق من السماوات والأرض بالعبادة ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة، لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال، وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موال أو مناف قال لمن خوطب به: قد أنصفك صاحبك، وفي درجه بعد تقدمة ما قدم من التقرير البليغ: دلالة غير خفية على من هو من الفريقين على الهدى ومن هو في الضلال المبين، ولكن التعريض والتورية أنضل [[قوله «ولكن التعريض والتورية أفضل» في الصحاح «ناضله» : راماه، يقال: ناضلت فلانا فنضلته إذا غلبته اه، فالأنضل الأشد رميا، فلذا عدى بالي. (ع)]] بالمجادل إلى الغرض، وأهجم به على الغلبة، مع قلة شغب الخصم وفلّ شوكته [[قوله «وفل شوكته» أى كسرها. (ع)]] بالهوينا ونحوه قول الرجل لصاحبه: علم الله الصادق منى ومنك، وإن أحدنا لكاذب [[قال محمود: «لما ألزمهم الحجة في قوله قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وهلم جرا إلى الآية المذكورة- وهذا الإلزام إن لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه- أمره أن يقول وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ومعناه: أن أحد الفريقين من الموحدين الرازق من السماوات والأرض بالعبادة، ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة على ذرة: لعلى أحد الأمرين من الهدى أو الضلال، وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موافق أو مخالف قال للمخاطب به: قد أنصفك صاحبك، والتعريض أنضل بالمجادل إلى الغرض، وأهجم به على الغلبة، مع قلة شغب الخصم وفل شوكته بالهوينا. ونحوه قول الرجل لصاحبه: الله يعلم الصادق منى ومنك، وإن أحدنا لكاذب ومنه قول حسان:
أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
قال أحمد: وهذا تفسير مهذب وافتنان مستعذب، رددته على سمعي فزاد رونقا بالترديد، واستعاذه الخاطر كأنى بطيء الفهم حين يفيد، ولا ينبغي أن ينكر بعد ذلك على الطريقة التي أكثر تعاطيها متأخر والفقهاء في مجادلاتهم ومحاوراتهم، وذلك قولهم: أحد الأمرين لازم على الإبهام، فهذا المسلك من هذا الوادي غير بعيد، فتأمله والله الموفق.]] . ومنه بيت حسان: أتهجوه ولست له بكفء ... فشر كما لخير كما الفداء [[تقدم شرح هذا الشاهد ضمن أبيات بالجزء الثاني صفحة 563 فراجعه إن شئت اه مصححه.]]
فإن قلت: كيف خولف بين حرفى الجرّ الداخلين على الحق والضلال؟ قلت: لأن صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء، والضال كأنه منغمس في ظلام مرتبك فيه لا يدرى أين يتوجه. وفي قراءة أبىّ: وإنا أو إياكم إما على هدى أو في ضلال مبين.
{"ayah":"۞ قُلۡ مَن یَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُلِ ٱللَّهُۖ وَإِنَّاۤ أَوۡ إِیَّاكُمۡ لَعَلَىٰ هُدًى أَوۡ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ"}