الباحث القرآني

وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ وعدهم اللَّه النصر بشرط الصبر والتقوى في قوله تعالى: (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ) ويجوز أن يكون الوعد قوله تعالى: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) فلما فشلوا وتنازعوا لم يرعبهم. وقيل: لما رجعوا إلى المدينة قال ناس من المؤمنين من أين أصابنا هذا وقد وعدنا اللَّه النصر فنزلت. وذلك أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم جعل أحدا خلف ظهره، واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل، وأمرهم أن يثبتوا في مكانهم ولا يبرحوا- كانت الدولة للمسلمين أو عليهم- فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون خيلهم، والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم. يحسونهم أى يقتلونهم قتلا ذريعا. حتى إذا فشلوا. والفشل: الجبن وضعف الرأى. وتنازعوا، فقال بعضهم: قد انهزم المشركون فما موقفنا هاهنا وقال بعضهم: لا نخالف أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فممن ثبت مكانه عبد اللَّه بن جبير أمير الرماة في نفر دون العشرة وهم المعنيون بقوله: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) ونفر أعقابهم ينهبون، وهم الذين أرادوا الدنيا، فكرّ المشركون على الرماة، وقتلوا عبد اللَّه بن جبير رضى اللَّه عنه، وأقبلوا على المسلمين، وحالت الريح دبورا وكانت صبا، حتى هزموهم وقتلوا من قتلوا، وهو قوله ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ليمتحن صبركم على المصائب وثباتكم على الإيمان عندها وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ لما علم من ندمكم على ما فرط منكم من عصيان أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يتفضل عليهم بالعفو، أو هو متفضل عليهم في جميع الأحوال سواء أديل لهم أو أديل عليهم لأنّ الابتلاء رحمة كما أنّ النصرة رحمة. فإن قلت: أين متعلق (حَتَّى إِذا) ؟ قلت: محذوف تقديره: حتى إذا فشلتم منعكم نصره. ويجوز أن يكون المعنى: صدقكم اللَّه وعده إلى وقت فشلكم إِذْ تُصْعِدُونَ نصب بصرفكم، أو بقوله: (لِيَبْتَلِيَكُمْ) أو بإضمار «اذكر» والإصعاد. الذهاب في الأرض والإبعاد فيه. يقال: صعد في الجبل وأصعد في الأرض. يقال: أصعدنا من مكة إلى المدينة: وقرأ الحسن رضى اللَّه عنه: تصعدون، يعنى في الجبل. وتعضد الأولى قراءة أبىّ: إذ تصعدون في الوادي. وقرأ أبو حيوة: تصعدون، بفتح التاء وتشديد العين، من تصعد في السلم وقرأ الحسن رضى اللَّه عنه: تلون، بواو واحدة وقد ذكرنا وجهها. وقرئ: يصعدون. ويلوون بالياء وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ كان يقول «إلىّ عباد اللَّه، إلىّ عباد اللَّه، أنا رسول اللَّه، من يكرّ فله الجنة» فِي أُخْراكُمْ في ساقتكم وجماعتكم الأخرى وهي المتأخرة. يقال: جئت في آخر الناس وأخراهم، كما تقول: في أوّلهم وأولاهم، بتأويل مقدمتهم وجماعتهم الأولى فَأَثابَكُمْ عطف على صرفكم، أى فجازاكم اللَّه غَمًّا حين صرفكم عنهم وابتلاكم (ب) سبب (غم) أذقتموه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعصيانكم له، أو غما مضاعفا، غما بعد غم، وغما متصلا بغم، من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والجرح والقتل وظفر المشركين وفوت الغنيمة والنصر لِكَيْلا تَحْزَنُوا لتتمرنوا على تجرع الغموم، وتضروا باحتمال الشدائد، فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ولا على مصيب من المضار. ويجوز أن يكون الضمير في: (فَأَثابَكُمْ) للرسول، أى فآساكم في الاغتمام [[قوله «فآساكم في الاغتمام» لعله: فآساكم، أى فصار أسوتكم «أفاده الصحاح» . (ع)]] ، وكما غمكم ما نزل به من كسر الرباعية والشجة وغيرهما غمه ما نزل بكم، فأثابكم غما اغتمه لأجلكم بسبب غم اغتممتموه لأجله، ولم يثربكم على عصيانكم ومخالفتكم لأمره: وإنما فعل ذلك ليسليكم وينفس عنكم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من نصر اللَّه، ولا على ما أصابكم من غلبة العدو. وأنزل اللَّه الأمن على المؤمنين وأزال عنهم الخوف الذي كان بهم حتى نعسوا وغلبهم النوم. وعن أبى طلحة رضى اللَّه عنه: غشينا النعاس ونحن في مصافنا، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه، ثم يسقط فيأخذه. وما أحد إلا ويميل تحت حجفته [[أخرجه البخاري من رواية قتادة عن أنس به. لكن ليس في آخره «وما أحد إلا ويميل تحت حجفته» وهو بتمامه عند الحاكم. وكذا أخرجه الطبري من رواية ثابت عن أنس رضى اللَّه عنه.]] . وعن ابن الزبير رضى اللَّه عنه: لقد رأيتنى مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حين اشتد علينا الخوف، فأرسل اللَّه علينا النوم. واللَّه إنى لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني [[أخرجه ابن إسحاق في المغازي. حدثني يحيى بن عباد بن عبيد اللَّه بن الزبير عن أبيه. عن عبيد اللَّه بن الزبير عن أبيه به. وأخرجه إسحاق والبزار والطبري وابن أبى حاتم وأبو نعيم والبيهقي. كلهم من طريقه.]] : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. والأمنة: الأمن. وقرئ (أمنة) بسكون الميم، كأنها المرة من الأمن نُعاساً بدل من أمنة. ويجوز أن يكون هو المفعول، وأمنة حالا منه مقدمة عليه، كقولك: رأيت راكبا رجلا، أو مفعولا له بمعنى نعستم أمنة. ويجوز أن يكون حالا من المخاطبين، بمعنى: ذوى أمنة، أو على أنه جمع آمن، كبار وبررة يَغْشى قرئ بالياء والتاء ردا على النعاس، أو على الأمنة طائِفَةً مِنْكُمْ هم أهل الصدق واليقين وَطائِفَةٌ هم المنافقون قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ما بهم إلا هم أنفسهم لا هم الدين ولا هم الرسول صلى اللَّه عليه وسلم والمسلمين، أو قد أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم في الهموم والأشجان، فهم في التشاكى والتباثّ غَيْرَ الْحَقِّ في حكم المصدر. ومعناه: يظنون باللَّه غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به. وظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ بدل منه. ويجوز أن يكون المعنى: يظنون باللَّه ظن الجاهلية. وغير الحق: تأكيد ليظنون، كقولك: هذا القول غير ما تقول، وهذا القول لا قولك وظن الجاهلية، كقولك: حاتم الجود، ورجل صدق: يريد الظن المختص بالملة الجاهلية. ويجوز أن يراد ظن أهل الجاهلية، أى لا يظن مثل ذلك الظن إلا أهل الشرك الجاهلون باللَّه يَقُولُونَ لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يسألونه هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ معناه هل لنا معاشر المسلمين من أمر اللَّه نصيب قط، يعنون النصر والإظهار على العدو قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ولأوليائه المؤمنين وهو النصر والغلبة (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) ، َ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ معناه: يقولون لك فيما يظهرون: هل لنا من الأمر من شيء سؤال المؤمنين المسترشدين وهم فيما يبطنون على النفاق، يقولون في أنفسهم أو بعضهم لبعض منكرين لقولك لهم إن الأمر كله للَّه لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أى لو كان الأمر كما قال محمد أن الأمر كله للَّه ولأوليائه وأنهم الغالبون، لما غلبنا قط، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ يعنى من علم اللَّه منه أنه يقتل ويصرع في هذه المصارع وكتب ذلك في اللوح لم يكن بد من وجوده فلو قعدتم في بيوتكم لَبَرَزَ من بينكم الَّذِينَ علم اللَّه أنهم يقتلون إِلى مَضاجِعِهِمْ وهي مصارعهم ليكون ما علم اللَّه أنه يكون. والمعنى أن اللَّه كتب في اللوح قتل من يقتل من المؤمنين، وكتب مع ذلك أنهم الغالبون، لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم، وأن دين الإسلام يظهر على الدين كله، وأن ما ينكبون به في بعض الأوقات تمحيص لهم وترغيب في الشهادة، وحرصهم على الشهادة مما يحرضهم على الجهاد فتحصل الغلبة. وقيل: معناه هل لنا من التدبير من شيء، يعنون لم تملك شيئا من التدبير حيث خرجنا من المدينة إلى أحد، وكان علينا أن نقيم ولا نبرح كما كان رأى عبد اللَّه بن أبىّ وغيره، ولو ملكنا من التدبير شيئا لما قتلنا في هذه المعركة، قل إن التدبير كله للَّه، يريد أن اللَّه عز وجل قد دبر الأمر كما جرى، ولو أقمتم بالمدينة ولم تخرجوا من بيوتكم لما نجا من القتل من قتل منكم. وقرئ: كتب عليهم القتال. وكتب عليهم القتل، على البناء للفاعل. ولبرِّز، بالتشديد وضم الباء وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ وليمتحن ما في صدور المؤمنين من الإخلاص، ويمحص ما في قلوبهم من وساوس الشيطان. فعل ذلك أو فعل ذلك لمصالح جمة وللابتلاء والتمحيص. فإن قلت: كيف مواقع الجمل التي بعد قوله وطائفة؟ قلت: (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ) صفة لطائفة. و (يَظُنُّونَ) صفة أخرى أو حال بمعنى: قد أهمتهم أنفسهم ظانين. أو استئناف على وجه البيان للجملة قبلها. و (يَقُولُونَ) بدل من يظنون. فإن قلت: كيف صح أن يقع ما هو مسألة عن الأمر بدلا من الإخبار بالظن؟ [[قال محمود: «إن قلت كيف صح أن يقع ما هو مسألة عن الأمر ... الخ» ؟ قال أحمد: ويلاحظ هذا النظر في قوله تعالى عن الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ... ) الآية فان هذا السؤال استفهام، والاستفهام لا يتصف بما يتصف به الخبر من الصدق ونقيضه، ومع ذلك ورد قوله تعالى في خطابهم (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يعنى في قولكم أتجعل فيها من يفسد فيها. فأجرى استفهامهم مجرى الخبر لاستلزامه الاخبار بأن هذا النوع الإنساني ليس بمعصوم عن الفساد وسفك الدماء، إلا من عصمه اللَّه تعالى منهم، واللَّه أعلم.]] قلت: كانت مسألتهم صادرة عن الظنّ، فلذلك جاز إبداله منه. ويخفون حال من يقولون. و (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) اعتراض بين الحال وذوى الحال. و (يَقُولُونَ) بدل من (يُخْفُونَ) والأجود أن يكون استئنافا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب