الباحث القرآني

وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ خوطب به الذين لم يشهدوا بدراً وكانوا يتمنون أن يحضروا مشهداً مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ليصيبوا من كرامة الشهادة ما نال شهداء بدر، وهم الذين ألحوا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في الخروج إلى المشركين، [[قوله «في الخروج» لعله وكان رأيهم في الخروج. (ع)]] وكان رأيه في الإقامة بالمدينة، يعنى: وكنتم تمنون الموت قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدّته وصعوبة مقاساته فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أى رأيتموه معاينين مشاهدين له حين قتل بين أيديكم من قتل إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا. وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت، وعلى ما تسببوا له من خروج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بإلحاحهم عليه، ثم انهزامهم عنه وقلة ثباتهم عنده. فإن قلت: كيف يجوز تمنى الشهادة وفي تمنيها تمنى غلبة الكافر المسلم؟ قلت: قصد متمنى الشهادة إلى نيل كرامة الشهداء لا غير، ولا يذهب وهمه إلى ذلك المتضمن، كما أن من يشرب دواء الطبيب النصراني قاصد إلى حصول المأمول من الشفاء، ولا يخطر بباله أنّ فيه جرّ منفعة وإحسان إلى عدوّ اللَّه وتنفيقا لصناعته. ولقد قال عبد اللَّه بن رواحة رضى اللَّه عنه- حين نهض إلى مؤتة وقيل له ردكم اللَّه [[قوله «وقيل له: ردكم اللَّه» لعله سالمين. (ع)]] : لكِنَّنِى أَسْألُ الرَّحْمنَ مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا أو طَعْنَةً بِيَدَىْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً ... بِحَرْبَةٍ تَنْفُذُ الأَحْشَاءَ وَالكَبِدَا حَتَّى يَقُولُوا إذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِى ... أرشدَكَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَد رَشَدَا [[لعبد اللَّه بن رواحة حين خرج إلى غزوة مؤتة فقيل له: ردك اللَّه سالما. وذات فرغ: أى واسعة الثقب. والفرغ: مصب الماء من الدلو بين العرقى. أو طعنة ذات فرغ: أى ذات سعة. ويطلق الفرغ على الدلو أيضا. وتقذف الزبد: تمج الدم الذي يعلوه الزبد- أى الرغوة- لكثرته. وحران: عطشان إلى قتلى، وهو مجاز عن تطلبه إياه. والمجهزة: المدفقة المسرعة التي لا تبقى رمقاً. وتنفذ الأحشاء: أى تنفذ فيها. وإن ضممت التاء وكسرت الفاء، فمعناه تثقبها. والكبد: عطف خاص على عام. والجدث: القبر، والتفت إلى الغيبة في قوله: وقد رشد، على أنه من كلامه. ويجوز أنه من قول الناس. ويحتمل الاخبار والدعاء. ومن غاز: تمييز.]] لما رمى عبد اللَّه بن قمئة الحارثي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه، أقبل يريد قتله فذب عنه صلى اللَّه عليه وسلم مصعب بن عمير وهو صاحب الراية يوم بدر ويوم أحد، حتى قتله ابن قمئة وهو يرى أنه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقال: قد قتلت محمداً. وصرخ صارخ: ألا إن محمداً قد قتل. وقيل: كان الصارخ الشيطان، ففشا في الناس خبر قتله فانكفؤا، فجعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يدعو: «إلىّ عباد اللَّه» حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه، فلامهم على هربهم، فقالوا: يا رسول اللَّه- فديناك بآبائنا وأمهاتنا- أتانا خبر قتلك فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين [[قلت: هذا منتزع من عدة أخبار في وقعة أحد. قال موسى بن عقبة في المغازي ومن طريقه البيهقي في الدلائل عن ابن شهاب. قال «رمى يومئذ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم رجل من بنى الحرث يقال له عبد اللَّه بن قمئة، ويقال: بل رماه عتبة بن أبى وقاص» وفي الطبراني عن أبى أمامة «أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم رماه عبد اللَّه بن قمئة بحجر يوم أحد فشجه في وجهه وكسر رباعيته، وقال: خذها وأنا ابن قمئة، فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلم أقمأك اللَّه فسلط اللَّه عليه تيس جبل فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة» وروى الطبري من طريق أسباط عن السدى فذكر قصة أحد. قال فأتى ابن قمئة الحارثي أحد بنى الحرث بن عبد مناف بن كنانة. فرمى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في رأسه فأثقله وتفرق عنه أصحابه ودخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل، وجعل يدعوهم: إلى عباد اللَّه. إلى عباد اللَّه. وفشا في الناس أن محمداً قتل» الحديث، وفي المغازي لابن إسحاق ومن طريقه الطبري عن الزهري، ومحمد بن محمد بن حبان وعاصم بن عمر، وغيرهم فذكر قصة أحد. قال «ولم يزل مصعب بن عمير يقاتل دونه ومعه لواؤه حتى قتل، وكان الذي أصابه ابن قمئة وهو يظن أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم. فرجع إلى قريش فقال: لقد قتلت محمداً. وعند الواقدي عن ابن أبى سبرة عن خالد بن رباح عن الأعرج قال «لما صاح الشيطان يوم أحد إن محمداً قد قتل. قال أبو سفيان: أيكم قتل محمداً؟ قال ابن قمئة: أنا. وأما قوله: فلامهم على هربهم إلى آخره فرواه [بياض بالأصل.] قوله أنه لما صرخ الصارخ قال بعض المسلمين: ليت عبد اللَّه ابن أبى يأخذ لنا أمانا من أبى سفيان، هو من رواية السدى المتقدمة ولفظه: فقال بعض أصحاب الصخرة ليت لنا رسولا إلى عبد اللَّه بن أبى فيأخذ لنا أمنة من أبى سفيان. قوله «وقال ناس من المنافقين: لو كان نبياً ما قتل. ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم. فقال أنس بن النضر عم أنس: يا قوم إن كان قتل محمد فان رب محمد حى لا يموت. الحديث: هو في آخر رواية السدى المذكورة. قوله وعن بعض المهاجرين أنه مر بأنصارى يتشحط في دمه فقال: يا فلان أشعرت أن محمداً قد قتل. فقال: إن كان قد قتل فقد بلغ. فقاتلوا عن دينكم» رواه الطبري من رواية ابن أبى نجيح عن مجاهد أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط، فذكره في كلام طويل.]] . فنزلت. وروى أنه لما صرخ الصارخ قال بعض المسلمين: ليت عبد اللَّه بن أبىّ يأخذ لنا أمانا من أبى سفيان. وقال ناس من المنافقين: لو كان نبيا لما قتل، ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم. فقال أنس بن النضر- عم أنس بن مالك-: يا قوم، إن كان قتل محمد فإن رب محمد حىٌّ لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه. ثم قال: اللهم إنى أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شدّ بسيفه فقاتل حتى قتل. وعن بعض المهاجرين: أنه مرّ بأنصارى يتشحط في دمه، فقال يا فلان، أشعرت أن محمداً قد قتل، فقال: إن كان قتل فقد بلغ، قاتلوا على دينكم. والمعنى وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ فسيخلو كما خلوا، وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم، فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه، لأن الغرض من بعثة الرسل [[قوله «من بعثة الرسل» لعله الرسول. (ع)]] تبليغ الرسالة وإلزام الحجة، لا وجوده بين أظهر قومه أَفَإِنْ ماتَ الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قبلها على معنى التسبيب، والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سببا لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه بموت أو قتل، مع علمهم أنّ خلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكا به يجب أن يجعل سببا للتمسك بدين محمد صلى اللَّه عليه وسلم، لا للانقلاب عنه. فإن قلت: لم ذكر القتل وقد علم أنه لا يقتل؟ قلت: لكونه مجوّزا عند المخاطبين. فإن قلت: أما علموه من ناحية قوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ؟ قلت: هذا مما يختص بالعلماء منهم وذوى البصيرة. ألا ترى أنهم سمعوا بخبر قتله فهربوا، على أنه يحتمل العصمة من فتنة الناس وإذ لا لهم. والانقلاب على الأعقاب: الإدبار عما كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقوم به من أمر الجهاد وغيره. وقيل: الارتداد. وما ارتد أحد من المسلمين ذلك اليوم إلا ما كان من قول المنافقين. ويجوز أن يكون على وجه التغليظ عليهم فيما كان منهم من الفرار والانكشاف عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وإسلامه [[قوله «وإسلامه» أى: تركه للعدو. (ع)]] فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً فما ضر إلا نفسه، لأن اللَّه تعالى لا يجوز عليه المضارّ والمنافع وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ الذي لم ينقلبوا كأنس بن النضر وأضرابه. وسماهم شاكرين، لأنهم شكروا نعمة الإسلام فيما فعلوا. المعنى: أن موت الأنفس محال أن يكون إلا بمشيئة اللَّه، فأخرجه مخرج فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا أن يأذن اللَّه له فيه تمثيلا، ولأن ملك الموت هو الموكل بذلك، فليس له أن يقبض نفساً إلا بإذن من اللَّه. وهو على معنيين: أحدهما تحريضهم على الجهاد وتشجيعهم على لقاء العدوّ بإعلامهم أن الحذر لا ينفع، وأن أحداً لا يموت قبل بلوغ أجله وإن خوّض المهالك واقتحم المعارك. والثاني ذكر ما صنع اللَّه برسوله عند غلبة العدوّ والتفافهم عليه وإسلام قومه له، نهزة للمختلس من الحفظ والكلاءة وتأخير الأجل
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب