أَمْ هي المنقطعة: نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره، فقال ما لِيَ لا أَرَى على معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك، ثم لاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول: أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له. ونحوه قولهم: إنها لإبل أم شاء، وذكر من قصة الهدهد أنّ سليمان حين تم له بناء بيت المقدس تجهز للحج بحشره [[قوله «تجهز للحج بحشره» في الصحاح: حشرت الناس أحشرهم حشرا: جمعتهم. ومنه: يوم الحشر. (ع)]] ، فوافى الحرم وأقام به ما شاء، وكان يقرّب كل يوم طول مقامه بخمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة، ثم عزم على السير إلى اليمن فخرج من مكة صباحا يؤم سهيلا، فوافى صنعاء وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضا حسناء أعجبته خضرتها، فنزل ليتغدّى ويصلى فلم يجدوا الماء، وكان الهدهد قناقنه [[قوله «وكان الهدهد قناقنه» القناقن- بالضم-: الدليل الهادي والبصير بالماء في حفر القنى. والقنى:
جمع قناة. أفاده الصحاح في موضعين. (ع)]] ، وكان يرى الماء من تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة فيجيء الشياطين فيسلخونها كما يسلخ الإهاب ويستخرجون الماء، فتفقده لذلك، وحين نزل سليمان حلق الهدهد فرأى هدهدا واقعا، فانحط إليه فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء، وذكر له صاحبه ملك بلقيس، وأنّ تحت يدها اثنى عشر ألف قائد تحت كل قائد مائة ألف وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر، وذكر أنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فلم يجد عنده علمه، ثم قال لسيد الطير وهو العقاب: علىّ به، فارتفعت فنظرت، فإذا هو مقبل فقصدته، فناشدها الله وقال:
بحق الذي قوّاك وأقدرك علىّ إلا رحمتينى، فتركته وقالت: ثكلتك أمك، إنّ نبى الله قد حلف ليعذبنك، قال: وما استثنى؟ قالت: بلى قال: أو ليأتينى بعذر مبين، فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرّها علىّ الأرض تواضعا له، فلما دنا منه أخذ برأسه فمدّه إليه، فقال:
يا نبى الله، اذكر وقوفك بين يدي الله، فارتعد سليمان وعفا عنه، ثم سأله. تعذيبه: أن يؤدّب بما يحتمله حاله ليعتبر به أبناء جنسه. وقيل: كان عذاب سليمان للطير أن ينتف ريشه ويشمسه.
وقيل: أن يطلى بالقطران ويشمس. وقيل: أن يلقى للنمل تأكله. وقيل: إيداعه القفص.
وقيل: التفريق بينه وبين إلفه. وقيل: لألزمنه صحبة الأضداد. وعن بعضهم: أضيق السجون معاشرة الأضداد. وقيل: لألزمنه خدمة أقرانه. فإن قلت: من أين حل له تعذيب الهدهد؟
قلت: يجوز أن يبيح له الله ذلك. لما رأى فيه من المصلحة والمنفعة، كما أباح ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع: وإذا سخر له الطير ولم يتم ما سخر له من أجله إلا بالتأديب والسياسة:
جاز أن يباح له ما يستصلح به. وقرئ: ليأتينى. وليأتينن. والسلطان: الحجة والعذر. فإن قلت:
قد حلف على أحد ثلاثة أشياء: فحلفه على فعليه لا مقال فيه، ولكن كيف صح حلفه على فعل الهدهد؟ ومن أين درى أنه يأتى بسلطان، حتى يقول والله ليأتينى بسلطان؟ قلت: لما نظم الثلاثة «بأو» في الحكم الذي هو الحلف: آل كلامه إلى قولك: ليكونن أحد الأمور، يعنى: إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح، وإن لم يكن كان أحدهما، وليس في هذا ادّعاء دراية، على أنه يجوز أن يتعقب حلفه بالفعلين وحى من الله بأنه سيأتيه بسلطان مبين، فثلث بقوله أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ عن دراية وإيقان.
{"ayahs_start":20,"ayahs":["وَتَفَقَّدَ ٱلطَّیۡرَ فَقَالَ مَا لِیَ لَاۤ أَرَى ٱلۡهُدۡهُدَ أَمۡ كَانَ مِنَ ٱلۡغَاۤىِٕبِینَ","لَأُعَذِّبَنَّهُۥ عَذَابࣰا شَدِیدًا أَوۡ لَأَا۟ذۡبَحَنَّهُۥۤ أَوۡ لَیَأۡتِیَنِّی بِسُلۡطَـٰنࣲ مُّبِینࣲ"],"ayah":"وَتَفَقَّدَ ٱلطَّیۡرَ فَقَالَ مَا لِیَ لَاۤ أَرَى ٱلۡهُدۡهُدَ أَمۡ كَانَ مِنَ ٱلۡغَاۤىِٕبِینَ"}