الباحث القرآني

فإن قلت: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ أهم غير الأوّلين أم هم الأوّلون؟ وإنما وسط العاطف كما يوسط بين الصفات في قولك هو الشجاع والجواد، وفي قوله: إلَى المَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهمامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ في المُزْدَحمْ [[الجار والمجرور متعلق بما قبله في الشعر. والقرم- بالفتح- في الأصل: الفحل المكرم الذي يعفى من العمل لتقديمه وتشويقه إلى ضراب الإبل، استعاره للسيد الرئيس أو للفارس المعد للمكاره. وظاهر القاموس أنه بمعنى السيد حقيقة. ووسط الواو بين النعوت لتوكيد ربطها بالمنعوت. والهمام: العظيم الهمة، النافذ العزيمة. واستعار لليث للشجاع على طريق التصريح. والكتيبة: الجيش المنضم المنتظم. والمزدحم: المعركة لأنها محل الازدحام، وأصله «مزتحم» من الافتعال قلبت تاؤه دالا.]] وقوله: يَا لَهْفَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ ... الصَّابِحِ فالغَانِم فَالْآيِبِ؟ [[يا لهف زيابة للحارث ... الصابح فالغانم فالآيب واللَّه لو لاقيته خاليا ... لآب سيفانا مع الغالب لابن زيابة في جواب الحرث بن هشام حين قال له: أيا ابن زيابة إن تلقني ... لا تلقني في النعم العازب وتلقني يشد بى أجرد ... مستقدم البركة كالراكب والعازب- بالزاي- البعيد عن أهله. يعرض بأن زيابة يراع للنعم لا شجاع. والأجرد: المنجرد الشعر. والبركة في البعير والفرس: العظم الناتئ في صدرهما وعظمه ممدوح فيهما، وشبهه بالراكب في طول عنقه وامتداده ويجوز أن المعنى أن راكبه أيضا مستقدم البركة لا متخشع منكمش. يقول: يا حسرة أبى على من أجل الحارث الذي بلغ مراده منى. وفيه ضرب من التهكم فان كان توعده ثم نكص على عقبيه. وقيل: هو على ظاهره، ثم حلف أنه لو وجده لقتله، ولكنه أبرز الكلام في صورة الإيهام للانصاف في الكلام ورجوع السيفين مع الغالب: كناية عن قتل المغلوب واستلاب سلاحه.]] قلت: يحتمل أن يراد بهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب كعبد اللَّه بن سلام وأضرابه من الذين آمنوا، فاشتمل إيمانهم على كل وحى أنزل من عند اللَّه، وأيقنوا بالآخرة إيقاناً زال معه ما كانوا عليه من أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى وأنّ النار لن تمسهم إلا أياما معدودات، واجتماعهم على الإقرار [[قوله «واجتماعهم على الإقرار» لعله عطف على مجرور «من» البيانية، باعتبار ما عطف عليه من افتراقهم واختلافهم الآتيين فتدبر. (ع)]] بالنشأة الأخرى وإعادة الأرواح في الأجساد، ثم افتراقهم فرقتين: منهم من قال: تجرى حالهم في التلذذ بالمطاعم والمشارب والمناكح على حسب مجراها في الدنيا ودفعه آخرون فزعموا أن ذلك إنما احتيج إليه في هذه الدار من أجل نماء الأجسام ولمكان التوالد والتناسل، وأهل الجنة مستغنون عنه فلا يتلذذون إلا بالنسيم والأرواح العبقة والسماع اللذيذ والفرح والسرور، واختلافهم في الدوام والانقطاع، فيكون المعطوف غير المعطوف عليه. ويحتمل أن يراد وصف الأوّلين. ووسط العاطف على معنى أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه. فإن قلت: فإن أريد بهؤلاء غير أولئك، فهل يدخلون في جملة المتقين أم لا؟. قلت: إن عطفتهم على (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) دخلوا وكانت صفة التقوى مشتملة على الزمرتين من مؤمنى أهل الكتاب وغيرهم. وإن عطفتهم على (لِلْمُتَّقِينَ) لم يدخلوا. وكأنه قيل: هدى للمتقين، وهدى للذين يؤمنون بما أنزل إليك. فإن قلت: قوله بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ إن عنى به القرآن بأسره والشريعة عن آخرها، فلم يكن ذلك منزلا وقت إيمانهم، فكيف قيل أنزل بلفظ المضىّ؟ وإن أريد المقدار الذي سبق إنزاله وقت إيمانهم فهو إيمان ببعض المنزل واشتمال الإيمان على الجميع سالفه ومترقبه واجب. قلت: المراد المنزل كله وإنما عبر عنه بلفظ المضىّ وإن كان بعضه مترقباً، تغليبا للموجود على ما لم يوجد، كما بغلب المتكلم على المخاطب، والمخاطب على الغائب فيقال: أنا وأنت فعلنا، وأنت وزيد تفعلان. ولأنه إذا كان بعضه نازلا وبعضه منتظر النزول جعل كأن كله قد نزل وانتهى نزوله، ويدل عليه قوله تعالى: (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) ولم يسمعوا جميع الكتاب، ولا كان كله منزلا، ولكن سبيله سبيل ما ذكرنا. ونظيره قولك: كل ما خطب به فلان فهو فصيح، وما تكلم بشيء إلا وهو نادر. ولا تريد بهذا الماضي منه فحسب دون الآتي، لكونه معقوداً بعضه ببعض، ومربوطا آتيه بماضيه. وقرأ يزيد بن قطيب بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ على لفظ ما سمى فاعله. وفي تقديم (بِالْآخِرَةِ) وبناء (يُوقِنُونَ) على: (هُمْ) تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته، وأنّ قولهم ليس بصادر عن إيقان، وأن اليقين ما عليه من آمن بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. والإيقان: إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه. وبِالْآخِرَةِ تأنيث الآخر الذي هو نقيض الأوّل، وهي صفة الدار بدليل قوله: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) وهي من الصفات الغالبة، وكذلك الدنيا. وعن نافع أنه خففها بأن حذف الهمزة وألقى حركتها على اللام، كقوله (دَابَّةُ الْأَرْضِ) وقرأ أبو حية [[قوله «وقرأ أبو حية» لعله: أبو حيوة. (ع)]] النميري (يوقنون) بالهمز، جعل الضمة في جار الواو كأنها فيه، فقلبها قلب واو «وجوه» و «وقتت» . ونحوه: لَحُبَّ المُؤْقِدَانِ إلَىَّ مُؤْسَى ... وَجَعدَةُ إذْ أَضَاءَهُمَا الْوَقُودُ [[لجرير في مدح هشام بن عبد الملك وموسى ابنه وجعدة بنته، وقيل ابنه أيضا وليس كذلك. واللام للقسم. وحب أصله حبب- كظرف- نقلت حركة الباء إلى الحاء ثم أدغمت في الأخرى. ومعناه: إنشاء المدح كنعم، ويفيد التعجب أيضا ك «مأحبه» . وقد تفتح حاؤه إذا كان فاعله ذا والمؤقدان بالهمز فاعل. ومؤسى بالهمز أيضا. وجعدة المخصوص بالمدح على طريقة: نعم لرجل زيد. و «حب» : محول من «حب» الثلاثي كضرب، وإن كان الكثير «أحب» الرباعي لأنه لا يصاغ للمدح إلا من الثلاثي. فان قلت: أهو محول من «حب» المسند للفاعل، أم من «حب» المبنى للمجهول؟ قلت: إن كان من المسند للفاعل فالمؤقدان محبوبان، وإن كان من المسند للمفعول فالتحويل تقديري. فالظاهر أنه مصوغ من المادة من غير ملاحظة إسناد. ويجوز أن «حب» أصله «حبب» - كضرب مبنى للمجهول- فالمؤقدان نائب فاعل، ومؤسى وجعدة بدل أو بيان. والمعنى على الخبر لا الإنشاء. وروى: أحب الموقدين، باضافة أفعل التفضيل إلى صيغة الجمع فمؤسى وجعدة خبر. وسوغ قلب واو الموقدين وموسى همزة، ضم ما قبلها، فكأنها مضمومة، وهي إذا ضمت تبدل همزة. ويقال: أضاء المكان وأضاءه السراج. وما هنا من الثاني، فهو متعد بمعنى أنارهما الوقود بالضم: أى توقد نار القرى وتلتهبنها، وأما بالفتح فهو ما توقد. به. وأصل فعول أنه مبالغة في الفاعل كضروب، وكثر بمعنى ما يفعل به الفعل كوقود وسحور، فيحتمل أنه من قبيل اسم المفعول، وأنه من قبيل اسم الآلة شذوذاً. والمعنى: ما أحبهما إلى وقت بأن أظهرتهما النار التي يوقدانها لقرى الأضياف]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب