الباحث القرآني

عن عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، وعطاء، وعكرمة، وهو مذهب مالك والشافعي [[قال محمود رحمه اللَّه: «مذهب مالك والشافعي رضى اللَّه عنهما أن الحر لا يقتل بالعبد والذكر لا يقتل بالأنثى ... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: وهذا من الزمخشري وهم على الإمامين، فإنهما يقتصان من الذكر للأنثى بلا خلاف عنهما. وأما الحر والعبد عندهما فهو الذي وهم الزمخشري عنهما.]] رحمة اللَّه عليهم: أنّ الحر لا يقتل بالعبد، والذكر لا يقتل بالأنثى، أخذا بهذه الآية. ويقولون: هي مفسرة لما أبهم في قوله: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ولأن تلك واردة لحكاية ما كتب في التوراة على أهلها، وهذه خوطب بها المسلمون وكتب عليهم ما فيها. وعن سعيد ابن المسيب، والشعبي والنخعي، وقتادة، والثوري، وهو مذهب أبى حنيفة وأصحابه: أنها منسوخة بقوله: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) والقصاص ثابت بين العبد والحرّ، والذكر والأنثى. ويستدلون بقوله صلى اللَّه عليه وسلم «المسلمون تتكافأ دماؤهم [[أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم من طريق قيس بن عباد عن على في قصة. ورواه أبو داود وابن ماجة من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وزاد «ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجبر عليهم أقصاهم. وهم يد على من سواهم» وفي الباب عن عائشة: رواه البخاري في تاريخه والدارقطني. وعن ابن عباس ومعقل بن يسار في ابن ماجة وعن جابر في المعجم الأوسط للطبراني.]] » وبأنّ التفاضل غير معتبر في الأنفس، بدليل أنّ جماعة لو قتلوا واحداً قتلوا به. وروى «أنه كان بين حيين من أحياء العرب دماء في الجاهلية، وكان لأحدهما طول على الآخر، فأقسموا لنقتلنّ الحرّ منكم بالعبد منا، والذكر بالأنثى، والاثنين بالواحد، فتحاكموا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حين جاء اللَّه بالإسلام فنزلت، وأمرهم أن يتباوؤا [[لم أجده.]] » فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ معناه: فمن عفى له من جهة أخيه [[قال محمود رحمه اللَّه: «معنى الآية: فمن عفى له من جهة أخيه ... الخ» . قال أحمد رحمه اللَّه: ويقوى هذا التأويل القول بأن موجب العمد أحد الأمرين من القصاص أو الدية، والخيار إلى الولي. وهو أحد القولين في مذهب مالك رضى اللَّه عنه ومشهورهما. إذ لو جعلنا موجب العمد القود على القول الآخر، لكان في ذلك تضييق على الولي. والآية مشعرة بالتخفيف والسعة وتحتمل الآية وجها آخر، وهو عود الضميرين جميعا إلى الولي، وقالوا على هذا الوجه يكون العفو إعطاء البدل، كأنه قال: فمن أعطى شيئا من أخيه أى بدلا من أخيه. ويكون «من» مثلها في قوله تعالى: (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) . ونظيره في استعمال العفو في العطاء عندي قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) إذا حمل الذي بيده العقدة على الزوج. وهو مذهب الشافعي رضى اللَّه عنه. ويقول أصحابه. عفوه على أحد وجهين: إما من استرجاع النصف الواجب إن كان قد سلم جميع المهر، وإما على دفع النصف الآخر الذي سقط عنه إن كان لم يسلمه، فيكون العفو على هذا مستعملا في الإعطاء. ويقوى هذا الوجه في أنه لا قصاص قوله: (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) لأن المخاطب بالاتباع بالمعروف إنما هو الولي، فإذا جعلنا الضميرين له انساق الكلام سياقة واحدة إلى جهة واحدة، وصار المعنى: فمن أعطى من الأولياء بدلا من أخيه، فليتبع بالمعروف في طلب ما أعطى. ولما خالفه الولي عن التقاضي خاطب القاتل بحسن الأداء، فلينتظم الكلام موجها إلى وجهة واحدة. وأما على الوجه الذي قرره الزمخشري، فالضميران جميعاً راجعان إلى القاتل وتقدير الكلام: فمن عفى له من القاتلين عن جنايته شيء من العفو فليتبع الولي هذا القاتل المعفو عنه بالمعروف، فيكون المخاطب أول الآية القاتل، وآخرها الولي، بخلاف الوجه الذي قررته واللَّه أعلم. وكلا الوجهين حسن جيد.]] شيء من العفو. على أنه كقولك: سير بزيد بعض السير، وطائفة من السير. ولا يصح أن يكون شيء في معنى المفعول به، لأن «عفا» لا يتعدّى إلى مفعول به إلا بواسطة. وأخوه: هو ولىّ المقتول، وقيل له أخوه، لأنه لابسه، من قبل أنه ولى الدم ومطالبه به، كما تقول للرجل: قل لصاحبك كذا، لمن بينه وبينه أدنى ملابسة أو ذكره بلفظ الأخوة، ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية والإسلام فإن قلت: إن عفى يتعدّى بعن لا باللام، فما وجه قوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) ؟ قلت: يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب، فيقال: عفوت عن فلان وعن ذنبه. قال اللَّه تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ) وقال: (عَفَا اللَّهُ عَنْها) فإذا تعدّى إلى الذنب والجاني معا قيل: عفوت لفلان عما جنى، كما تقول: غفرت له ذنبه وتجاوزت له عنه. وعلى هذا ما في الآية، كأنه قيل: فمن عفى له عند جنايته، فاستغنى عن ذكر الجناية. فإن قلت: هلا فسرت عفى بترك حتى يكون شيء في معنى المفعول به؟ قلت: لأن عفا الشيء بمعنى تركه ليس بثبت، ولكن أعفاه. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «وأعفوا اللحى» [[متفق عليه من حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما]] فإن قلت. فقد ثبت قولهم: عفا أثره إذا محاه وأزاله، فهلا جعلت معناه: فمن محى له من أخيه شيء؟ قلت: عبارة قلقة في مكانها، والعفو في باب الجنايات عبارة متداولة مشهورة في الكتاب والسنة واستعمال الناس، فلا يعدل عنها إلى أخرى قلقة نابية عن مكانها، وترى كثيراً ممن يتعاطى هذا العلم يجترئ- إذا أعضل عليه تخريج وجه للمشكل من كلام اللَّه- على اختراع لغة وادعاء على العرب ما لا تعرفه، وهذه جرأة يستعاذ باللَّه منها. فإن قلت؟ لم قيل: شيء من العفو؟ قلت: للإشعار بأنه إذا عفى له طرف من العفو وبعض منه بأن يعفى عن بعض الدم، أو عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص ولم تجب إلا الدية فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ فليكن اتباع، أو فالأمر اتباع. وهذه توصية للمعفو عنه والعافي جميعا. يعنى فليتبع الولي القاتل بالمعروف بأن لا يعنف به ولا يطالبه إلا مطالبة جميلة، وليؤدّ إليه القاتل بدل الدم أداء بإحسان، بأن لا يمطله ولا يبخسه ذلِكَ الحكم المذكور من العفو والدية تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ لأن أهل التوراة كتب عليهم القصاص البتة وحرّم العفو وأخذ الدية، وعلى أهل الإنجيل العفو وحرّم القصاص والدية، وخيرت هذه الأمّة بين الثلاث: القصاص والدية والعفو، توسعة عليهم وتيسيراً فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ التخفيف، فتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل [[قوله «من قتل غير القاتل» بيان للتجاوز والاعتداء. (ع)]] ، أو القتل بعد أخذ الدية. فقد كان الولي في الجاهلية يؤمّن القاتل بقبوله الدية، ثم يظفر به فيقتله فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة. وعن قتادة: العذاب الأليم أن يقتل لا محالة ولا يقبل منه دية، لقوله عليه السلام «لا أعافى أحداً قتل بعد أخذه الدية» وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ كلام فصيح لما فيه من الغرابة [[قال محمود رحمه اللَّه: «كلام فصيح لما فيه من الغرابة ... الخ» . قال أحمد رحمه اللَّه: قوله جعل أحد الضدين محلا للآخر: كلام إما وهم فيه أو تسامح، لأن شرط تضاد الحياة والموت اجتماعهما في محل واحد تقديراً، ولا تضاد بين حياة غير المقتص منه وموت المقتص، والبلاغة التي أوضحها في الآية بينة بدون هذا الإطلاق.]] ، وهو أنّ القصاص قتل وتفويت للحياة، وقد جعل مكانا وظرفا للحياة، ومن إصابة محز البلاغة بتعريف القصاص وتنكير الحياة لأنّ المعنى: ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة، وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفنى بكر بن وائل، وكان يقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة ويقع بينهم التناحر، فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أىّ حياة، أو نوع من الحياة، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل، لأنه إذا همّ بالقتل فعلم أنه يقتصّ فارتدع منه سلم صاحبه من القتل، وسلم هو من القود، فكان القصاص سبب حياة نفسين. وقرأ أبو الجوزاء: ولكم في القصاص حياة: أى فيما قص عليكم من حكم القتل. والقصاص. وقيل القصص: القرآن، أى ولكم في القرآن حياة للقلوب: كقوله تعالى: (رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) ، (وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) . لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أى أريتكم ما في القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به. وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب