الباحث القرآني

وَاسْتَبَقَا الْبابَ وتسابقا إلى الباب على حذف الجارّ وإيصال الفعل، كقوله وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ على تضمين «استبقا» معنى «ابتدرا» نفر منها يوسف، فأسرع يريد الباب ليخرج وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج. فإن قلت: كيف وحد الباب، وقد جمعه في قوله وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ؟ قلت: أراد الباب البراني الذي هو المخرج من الدار والمخلص من العار، فقد روى كعب أنه لما هرب يوسف جعل فراش القفل [[قوله «فراشة القفل» هو ما ينشب فيه. يقال أقفل فأفرش. (ع)]] يتناثر ويسقط حتى خرج من الأبواب وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ اجتذبته من خلفه فانقد، أى انشق حين هرب منها إلى الباب وتبعته تمنعه وَأَلْفَيا سَيِّدَها وصادفا بعلها وهو قطفير، تقول المرأة لبعلها: سيدي. وقيل: إنما لم يقل سيدهما، لأنّ ملك يوسف لم يصح، فلم يكن سيداً له على الحقيقة. قيل: ألفياه مقبلا يريد أن يدخل. وقيل جالساً مع ابن عمّ للمرأة. لما اطلع منها زوجها على تلك الهيئة المريبة وهي مغتاظة على يوسف إذ لم يؤاتها [[قوله «إذ لم يؤاتها» في الصحاح: وتقول آتيته على ذلك الأمر مؤاتاة، إذا وافقته وطاوعته. والعامة تقول: وأتيته. (ع)]] جاءت بحيلة جمعت فيها غرضيها: وهما تبرئة ساحتها عند زوجها من الريبة والغضب على يوسف، وتخويفه طمعاً في أن يؤاتيها خيفة منها ومن مكرها، وكرها لما أيست من مؤاتاته طوعا. ألا ترى إلى قولها وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ و «ما» نافية، أى: ليس جزاؤه إلا السجن. ويجوز أن تكون استفهامية، بمعنى: أى شيء جزاؤه إلا السجن، كما تقول: من في الدار إلا زيد. فإن قلت: كيف لم تصرح في قولها بذكر يوسف، وإنه أراد بها سوءا [[قال محمود: «إن قلت: لم قالت ما قالت غير مصرحة بذكر يوسف ... الخ» ؟ قال أحمد: أو أظهرت بهذا الإجمال الحياء والحشمة أن تقول لبعلها: هذا أراد بى سوءاً ولذلك أيضا كنت بالسوء عما أضمرته من الهناة مبالغة في المكر والكيد، وإبعاد للتهمة عنها بتوقى ما يشعر منها بالتبرج والقحة، وعلى الضد من مقصودها وإن وافق ملاحظتها بحشمة الإجمال: قول ابنة شعيب تمدح موسى عليه السلام فيما حكى الله عنها قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ولم تقل: إنه قوى أمين، حياء من التعيين وحشمة وخفراً، ولكن هذه إنما بعثها على هذا الأدب شيمة الحياء، وامرأة العزيز إنما بعثها عليه التكلف والاستعمال لذلك الغرض الفاسد من المكر، والله أعلم.]] قلت: قصدت العموم، وأنّ كل من أراد بأهلك سوءاً فحقه أن يسجن أو يعذب، لأنّ ذلك أبلغ فيما قصدته من تخويف يوسف. وقيل: العذاب الأليم الضرب بالسياط. ولما أغرت به وعرّضته للسجن والعذاب وجب عليه الدفع عن نفسه فقال: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ولولا ذلك لكتم عليها وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها قيل كان ابن عمّ لها، إنما ألقى الله الشهادة على لسان من هو من أهلها، لتكون أوجب للحجة عليها، وأوثق لبراءة يوسف، وأنفى للتهمة عنه. وقيل: هو الذي كان جالساً مع زوجها لدى الباب. وقيل كان حكيما يرجع إليه الملك ويستشيره ويجوز أن يكون بعض أهلها كان في الدار فبصر بها من حيث لا تشعر، فأغضبه الله ليوسف بالشهادة له والقيام بالحق. وقيل: كان ابن خال لها صبيا في المهد. وعن النبي ﷺ «تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى» [[أخرجه الحاكم وابن حبان وأحمد وابن أبى شيبة والبزار وأبو يعلى. والطبري والبيهقي في السادس عشر من الشعب كلهم من رواية حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما رفعه «لما أسرى بى مرت رائحة طيبة- الحديث» فيه قصة الماشطة، وفي آخره قال رسول الله ﷺ «تكلم في المهد أربعة، وهم صغار: هذا، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم» وفي الحاكم أيضاً من رواية مسلم بن إبراهيم عن جريج بن حازم عن محمد بن سيرين عن أبى هريرة رفعه «لم يتكلم في المهد إلا أربعة وهم صغار: عيسى، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وابن ماشطة فرعون» وذكره بلفظ ثلاثة. وذكر الثالث ابن المرأة التي ألقيت في النار. فخشيت على ولدها فكلمها» وفي الصحيحين من وجه آخر عن أبى هريرة مرفوعا: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وصبى كان يرضع فمر رجل راكب على دابة- الحديث» اقتصر الطيبي على هذا الأخذ فلم يصب، وبهذا الاعتبار صاروا خمسة. وروى الثعلبي عن الضحاك أنهم ستة زادهم يحيى بن زكريا.]] فإن قلت: لم سمى قوله شهادة وما هو بلفظ الشهادة؟ [[قال محمود: «إن قلت لم سمى قوله شهادة وما هو بلفظ الشهادة ... الخ» ؟ قال أحمد: مهما قدره من ذلك في اتباعه لها، يحتمل مثله في اتباعها له، فإنها إنما تقد قميصه من قبل بتقدير أن يكون اجتذبها حتى صارا متقابلين فدفعته عن نفسها، وهذا بعينه يحتمل إذا كانت هي التابعة أن تكون اجتذبته حتى صارا متقابلين، ثم جذبت قميصه إليها من قبل، بل هاهنا أظهر، لأن الموجب لقد القميص غالبا الجذب لا الدفع.]] قلت: لما أدّى مؤدّى الشهادة في أن ثبت به قول يوسف وبطل قولها سمى شهادة: فإن قلت: الجملة الشرطية كيف جازت حكايتها بعد فعل الشهادة؟ قلت: لأنها قول من القول، أو على إرادة القول، كأنه قيل: وشهد شاهد فقال إن كان قميصه. فإن قلت: إن دل قدّ قميصه من دبر على أنها كاذبة وأنها هي التي تبعته واجتبذت ثوبه إليها فقدّته، فمن أين دل قدّه من قبل على أنها صادقة، وأنه كان تابعها؟ قلت: من وجهين، أحدهما: أنه إذا كان تابعها وهي دافعته عن نفسها قدت قميصه من قدّامه بالدفع. والثاني: أن يسرع خلفها ليلحقها فيتعثر في مقادم قميصه فيشقه [[عاد كلامه. قال: «والثاني أن يسرع خلفها ليلحقها فيعثر في مقادم قميصه فينقد» قال أحمد: وهذا بعينه محتمل لو كانت هي التابعة وهو فار منها فانقد قميصه في إسراعه للفرار، والله أعلم. فليس كلام الزمخشري في هذا الفصل بذاك. والحق- والله ولى التوفيق- أن الشاهد المذكور إن كان صبيا في المهد كما ورد في بعض الحديث، فالآية في مجرد كلامه قبل أوانه، حتى لو قال: صدق يوسف وكذبت، لكفى برهانا على صدقه عليه السلام، كما كان مجرد إخبار عيسى عليه السلام في المهد برهانا على صدق مريم، فلا تبقى المناسبة بين الأمارة المنصوبة وما رتب عليها، لأن العمدة في الدلالة نصبها لا مناسبتها، وإن كان الشاهد بعض أهلها كان في الدار فبصر بها من حيث لا تشعر، فأغضبه الله ليوسف بالشهادة له وإقامة الحق كما ذكر الزمخشري. فهذا والله أعلم كان من حقه أن يصرح بما رأى فيصدق يوسف ويكذبها، ولكنه أراد أن لا يكون هو الفاضح لها، ووثق بأن انقطاع قميصه إنما كان من دبر فنصبه أمارة لصدقه وكذبها، ثم ذكر القسم الآخر وهو قده من قبل، على علم بأنه لم ينقد من قبل حتى ينفى عن نفسه التهمة في الشهادة وقصد الفضيحة، وينصفهما جميعا فيذكر أمارة على صدقها المعلوم نفيه، كما ذكر أمارة على صدقه المعلوم وجوده، ومن ثم قدم أمارة صدقها على أمارة صدقه في الذكر، إزاحة للتهمة ووثوقا بأن الأمارة الثانية هي الواقعة، فلا يضره تأخيرها. وهذه اللطيفة بعينها- والله أعلم- هو التي راعاها مؤمن آل فرعون في قوله وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ فقدم قسم الكذب على قسم الصدق إزاحة التهمة التي خشي أن تنطرق إليه في حق موسى عليه السلام، ووثوقا بأن القسم الثاني وهو صدقه هو الواقع. فلا يضره تأخيره في الذكر لهذه الفائدة. ومن ثم قال بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ولم يقل: كل ما يعدكم تعريضا بأنه معهم عليه، وأنه حريص على أن بخسه حقه، وينحو هذا النحو تأخير يوسف عليه السلام لكشف وعاء أخيه، لأنه لو بدأ به لفطنوا أنه هو الذي أمر بوضع السقاية فيه، والله أعلم. فقصد هذا الشاهد الأمارة الآخرة فقط. والمناسبة فيها محققة. وأما الأمارة الأولى فليست مقصودة، وإنما ذكرها توطئة كما تقدم. فلم يلتمس لها مناسبة جلية صحيحة على اليقين، وإنما هي كالفرض والتقدير والله أعلم. وكأنه قال: إن كان قميصه قدمن قبل فهي صادقة. لكنه يعلم انتفاء الأمارة المذكورة، فعلق صدقها على محال وهو وجود قده من قبل حالة، فهذا التقرير هو الصواب والحق اللباب، والله الموفق. وأما إن كان الشاهد الحكيم الذي كان الملك يرجع إليه ويستشيره كما ورد في بعض التفاسير، فلا بد من التماس المناسبة في الطرفين لأنها عهدة الحكيم. وأقرب وجه في المناسبة أن قد القميص من دبر دليل على إدباره عنها، وقده من قبل دليل على إقباله عليها بوجهه، والله أعلم.]] . وقرئ: من قبل، ومن دبر، بالضم على مذهب الغايات. والمعنى: من قبل القميص ومن دبره. وأما التنكير فمعناه من جهة يقال لها قبل، ومن جهة يقال لها دبر. وعن ابن أبى إسحاق أنه قرأ: من قبل ومن دبر بالفتح، كأنه جعلهما علمين للجهتين فمنعهما الصرف للعلمية والتأنيث. وقرئا [[قوله «وقرئا» أى: قبل ودبر، وقوله «بسكون العين» : أى الباء. (ع)]] بسكون العين. فإن قلت: كيف جاز الجمع بين «إن» الذي هو للاستقبال وبين «كان» ؟ قلت: لأنّ المعنى أن يعلم أنه كان قميصه قدّ، ونحوه كقولك: إن أحسنت إلىّ فقد أحسنت إليك من قبل، لمن يمتن عليك بإحسانه، تريد: إن تمتن علىَّ أمتنَّ عليك فَلَمَّا رَأَى يعنى قطفير وعلم براءة يوسف وصدقه وكذبها قالَ إِنَّهُ إن قولك ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً [[قال محمود: «الضمير راجع إلى قولها ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ... الخ» قال أحمد: وفيما قاله هذا العالم نظر، لأن الآية التي ذكر فيها كيد الشيطان من قول الله تعالى غير محكي. وأما هذه الآية فكيد النساء فيها من قول العزيز، ولكن حكاه الله تعالى عنه فيحتمل حكايته عنه أن يكون تصحيحا له، ويحتمل أن لا يكون المراد تصويبه، وأيضا فان كيد الشيطان مذكور في الآية مقابلا لكيد الله تعالى، فكان ضعيفا بالنسبة إليه. ألا ترى أول الآية الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً وأيضاً فان الكيد الذي يتعاطاه النساء وغيرهن مستفاد من الشيطان بوسوسته وتسويله وشواهد الشرع قائمة على ذلك، فلا يتصور حينئذ أن يكون كيد هن أعظم من كيده، والله أعلم.]] أو إنّ الأمر وهو طمعها في يوسف مِنْ كَيْدِكُنَّ الخطاب لها ولأمتها. وإنما استعظم كيد النساء لأنه وإن كان في الرجال، إلا أنّ النساء ألطف كيداً وأنفذ حيلة. ولهنّ في ذلك نيقة [[قوله «نيقة» اسم للتأنق في الأمر. أفاده الصحاح. (ع)]] ورفق، وبذلك يغلبن الرجال. ومنه قوله تعالى وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ والقصريات من بينهنّ معهنّ ما ليس مع غيرهنّ من البواتق [[قوله «مع غيرهن من البوائق» أى الدواهي. أفاده الصحاح. (ع)]] وعن بعض العلماء: أنا أخاف من النساء أكثر ما أخاف من الشيطان، لأنّ الله تعالى يقول إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً وقال للنساء إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. يُوسُفُ حذف منه حرف النداء لأنه منادى قريب مفاطن للحديث وفيه تقريب له وتلطيف لمحله أَعْرِضْ عَنْ هذا الأمر واكتمه ولا تحدّث به وَاسْتَغْفِرِي أنت لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ من جملة القوم المتعمدين للذنب. يقال: خطئ، إذا أذنب متعمداً، وإنما قال مِنَ الْخاطِئِينَ بلفظ التذكير تغليبا للذكور على الإناث، وما كان العزيز إلا رجلا حليما. وروى أنه كان قليل الغيرة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب