* الإعراب:
(حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) حم: تقدم القول في فواتح السور معنى وإعرابا والواو واو القسم والكتاب مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم والمبين نعت للكتاب (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) إن واسمها وجملة جعلناه خبرها وجعلناه أي صيّرناه وفعل وفاعل ومفعول به وقرآنا مفعول به ثان وعربيا نعت ولعلّ واسمها وجملة تعقلون خبرها وجملة إنّا جعلناه جواب القسم وقد استهوى هذا الجواب علماء البلاغة كما سيأتي. وأجاز الزمخشري أن يكون جعلناه بمعنى خلقناه جريا على قاعدة المعتزلة في القول بخلق القرآن وسيأتي حديث عنها في باب الفوائد فيكون قرآنا حالا من الهاء وجملة لعلكم تعقلون تعليلية لا محل لها لأن الترجّي مستعار لمعنى الإرادة أي جعلناه قرآنا عربيا إرادة أن تعقله العرب (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) الواو عاطفة والجملة معطوفة على جواب القسم فهي بمثابة جواب ثان وإن واسمها وفي أم الكتاب متعلقان بمحذوف خبرها والتقدير مثبت وأم الكتاب أصل الكتب أي اللوح المحفوظ قال تعالى:
«بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ» ولدينا ظرف متعلق بمحذوف حال واللام المزحلقة وعليّ خبر ثان وحكيم خبر ثالث، واعترض بعضهم على هذا الإعراب لأن فيه تقديم الخبر غير المقرون باللام على المقرون بها قال أبو البقاء: «في أم الكتاب يتعلق بعلي واللام لا تمنع من ذلك ولدينا بدل من الجار والمجرور ويجوز أن يكون حالا من الكتاب أو من أم ولا يجوز أن يكون واحد من الظرفين خبرا لأن الخبر قد لزم أن يكون علي من أجل اللام ولكن يجوز أن يكون كل واحد منهما صفة للخبر فصارت حالا بتقدمها» (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف مقدّر بينها وبين الهمزة تقديره أنهملكم فنضرب، ونضرب فعل مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره نحن وعنكم متعلقان بنضرب والذكر مفعول به أي القرآن وصفحا فيه أوجه أحدها أنه مصدر مرادف لمعنى نضرب لأنه يقال ضرب عن كذا وأضرب عنه بمعنى أعرض عنه وصرف وجهه عنه والثاني أنه منصوب على الحال من فاعل نضرب أي صافحين والثالث أنه منصوب على أنه ظرف بمعنى الجانب من قولهم نظر إليه بصفح وجهه كما تقول ضع هذا الكتاب جانبا وامش جانبا والرابع أنه مفعول من أجله والمعنى أفنعزل عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة به إعراضا عنكم وسيأتي مزيد من القول في هذه الآية. وأن مصدرية وقرىء بكسر الهمزة فهي شرطية فهي ومدخولها على الأول مفعول من أجله وعلى الثاني يكون كنتم فعل الشرط والجواب محذوف وعبارة الزمخشري: «فإن قلت كيف استقام معنى إن الشرطية وقد كانوا مسرفين على البت؟ قلت: هو من الشرط الذي ذكرت أنه يصدر عن المدلّ بصحة الأمر المتحقق لثبوته كما يقول الأجير: إن كنت عملت لك فوفّني حقّي وهو عالم بذلك ولكنه يخيل في كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحق فعل من له شك في الاستحقاق مع وضوحه استجهالا له» وكنتم: كان واسمها وقوما خبرها ومسرفين نعت (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) كم خبرية في محل نصب مفعول مقدّم لأرسلنا ومن نبي تمييز لكم الخبرية وفي الأولين متعلقان بأرسلنا (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الواو عاطفة وما نافية ويأتيهم فعل مضارع مرفوع ومفعول به مقدم ومن حرف جر زائد ونبي مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل وإلا أداة حضر وكان واسمها وبه متعلقان بيستهزئون وجملة يستهزئون خبر كانوا (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) الفاء الفصيحة وأهلكنا فعل وفاعل وأشد مفعول به ومنهم متعلقان بأشد وبطشا تمييز على الأرجح وقيل حال من فاعل أهلكنا أي باطشين وأراه محض تكلّف، ومضى عطف على فأهلكنا ومثل الأولين فاعل مضى.
* البلاغة:
1- القسم في قوله «والكتاب المبين إنّا جعلناه» الآية فن التناسب، فقد أقسم بالقرآن وإنما يقسم بعظيم ثم جعل المقسم عليه تعظيم القرآن بأنه قرآن عربي مرجو له أن يعقل به العالمون فكان جواب القسم مصححا للقسم وتم التناسب بين القسم والمقسم به لأنهما من واد واحد، وقد تعلق الشعراء بأذيال هذه البلاغة العالية فأقسم أبو تمام بالثنايا إذ قال:
وثناياك إنها إغريض ... ولآل توم وبرق وميض
وأقاح منوّر في بطاح ... هزّه في الصباح روض أريض
وارتكاض الكرى بعيني ... ك في النوم فنونا وما لعيني غموض
فقد أقسم أبو تمام بالثنايا وهي مقدم أسنانها أنها أغريض فالقسم وجوابه متعلقان بشيء واحد، والإغريض- كما في الصحاح- الطلع وكل أبيض طري، والتوم واحدة تومة وهي حبة تعمل من الفضة كالدرة.
2- الاستعارة: وفي قوله «وإنه في أم الكتاب» استعارة تصريحية، وقد استعير لفظ الام للأصل وهو المشبه المحذوف لأن الأولاد تنشأ من الام كما تنشأ الفروع من الأصول وحكمة ذلك تمثيل ما ليس بمرئي حتى يصير مرئيا ولم تفد هذه الاستعارة سوى الظهور لأن الام أظهر للحس من الأصل.
* الفوائد:
1- فتنة خلق القرآن: كانت المعتزلة تقول بنفي صفات المعاني عن الله تعالى، ومنها الكلام، لأن إثباتها يؤدي إلى التشبيه وإلى تعدّد القديم وذلك ينافي التوحيد وكان من النتائج اللازمة لذلك أن قالوا: بأن القرآن كلام الله مخلوق، قال صاحب المواقف: «قالت المعتزلة: كلامه تعالى أصوات وحروف لكنها ليست قائمة بذاته بل يخلقها الله في غيره كاللوح المحفوظ أو جبريل أو النبي وهو حادث» وليست المعتزلة أول من قال بخلق القرآن، كما أنهم ليسوا أول من أنكر الصفات، بل إن أول من عرف بالقول بخلقه الجعد بن درهم بدمشق، وهو مؤدب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية وأخذ عنه ذلك القول جهم بن صفوان الترمذي زعيم فرقة الجهمية الجبرية فقال بخلقه إذ أن الجهمية تنكر الصفات وذكروا أن بشر بن غياث المريسي، وهو زعيم المريسية من فرق المرجئة، قال أيضا بخلق القرآن في عصر الرشيد ونهاه أبو يوسف عن ذلك فلم ينته فهجره وطرده من مجلسه وقال: لا تنتهي أو تفسد خشبة- يريد الصلب- ولما بلغ ذلك الرشيد قال عليّ إن أظفرني الله به أن أقتله وظل بشر مختفيا طول خلافة الرشيد ولم يظفر به مع شدّة طلبه له، وذكروا أيضا أن حفصا الفرد، وهو من أكابر المجبرة، قال بذلك القول وأن الشافعي ناظره وكفّره، وكان الناس في تلك المسألة، في عصر الرشيد، بين أخذ وترك حتى ولي المأمون فقال بخلقه وكان من أشد نصراء الاعتزال، ويطول بنا القول إن عمدنا إلى نقل مجريات هذه الفتنة فارجع إليها في مظانها الكثيرة إن شئت.
على أننا لا نمرّ بهذا البحث دون أن نشير إلى محنة الإمام أحمد بن حنبل لذيوعها فنقول: أحضر المعتصم الإمام أحمد وعقد له مجلسا للمناظرة وفيه عبد الرحمن بن إسحق والقاضي أحمد بن داود وغيرهما فناظروه ثلاثة أيام ولم يزل معهم في جدال إلى اليوم الرابع فأمر المعتصم بضربه بالسياط، ولم يحل عن رأيه إلى أن أغمي عليه ونخسه عجيف بن عنبسة بالسيف ورمى عليه بارية (وهي الحصير المنسوج) وديس عليه ثم حمل إلى منزله بعد أن ضرب ثمانية وثلاثين سوطا وكانت مدة مكثه في السجن ثمانية وعشرين شهرا وارجع إلى تاريخ الطبري ووفيات الأعيان ومروج الذهب لتقرأ العجيب من أخبار هذه الفتنة.
2- وعدناك بأن نتحدث إليك عن أسلوب القرآن فنقول:
احتوى القرآن على ألفاظ كثيرة وصفها بعض الصحابة والتابعين أنها من غير لغة العرب، كما ألّف العلماء في ذلك كتبا خاصة، ووجود المعرب في القرآن قضية علمية اختلف حولها العلماء اختلافا كبيرا على رأيين، أحدهما:
الرأي الأول: وجود المعرب في القرآن وإلى ذلك ذهب بعض الصحابة والتابعين والعلماء منهم ابن عباس ووهب بن منبّه وابن مسعود وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وعطاء والضحاك والسدي وأبو عمران الجويني وعمرو بن شرحبيل وأبو موسى الأشعري والزمخشري وابن الحاجب والسيوطي وغيرهم.
الرأي الثاني: أن القرآن لا يحتوي على غير العربي من الألفاظ وهو مذهب كثير من العلماء ومنهم الإمام الشافعي وأبو عبيدة وابن فارس وابن جرير الطبري والباقلاني والرازي وغيرهم.
وليس مما يفيد كثيرا أن نعرض التفاصيل لكلا الرأيين وأدلتهما والردّ عليهما وإنما المفيد في ذلك فهم الأمور الآتية:
1- أن الدارسين المتأخرين قد ارتضوا الرواية التالية عن أبي عبيد القاسم بن سلام وكأنما وجدوا فيها حلا للقضية وخروجا من هذا الخلاف والرواية هي: قال أبو عبيد: وروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغيرهم في أحرف كثيرة أنه من غير لسان العرب مثل (سجيل والمشكاة واليم والطور وأباريق واستبرق) وغير ذلك فهؤلاء أعلم بالتأويل من أبي عبيدة ولكنهم ذهبوا إلى مذهب، وذهب هذا إلى غيره وكلاهما مصيب إن شاء الله تعالى.
وذلك أن هذه الحروف بغير لسان العرب في الأصل فقال أولئك على الأصل ثم لفظت به العرب بألسنتها فعربته فصار عربيا إياه فهي عربية في هذه الحال، أعجمية الأصل فهذا القول يصدق على الفريقين جميعا.
وقد أورد هذه الرواية الجواليقي بعد أن أورد قول عبيدة: من زعم أن في القرآن لسانا سوى العربية فقد أعظم على الله القول واحتجّ بقوله تعالى: «إنّا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون» ثم نقل هذه الرواية من جاء بعد الجواليقي ودرس موضوع التعريب في القرآن كالسيوطي وغيره.
2- إنه سواء أكانت الألفاظ الواردة في القرآن من لغات أخرى أعجمية باعتبار الأصل عربية باعتبار الحال أو أعجمية باعتبار الأصل والحال فإن ورودها في القرآن يدل على أن العرب قد فهموها وتقبلوها وفهمهم لها يدل على شيوعها بينهم من قبل أن يأتيهم بها وهذا يثبت ما نحن بصدده من وجود الألفاظ المنقولة من لغات أخرى في الجاهلية ومن استمرار ذلك حين جاء الإسلام.
3- يبدو أن الذين رفضوا وجود المعرب في القرآن سيطر عليهم الوازع الديني أكثر من تقرير الواقع اللغوي ولذلك فإن السيوطي حين أورد هذه الألفاظ في كتابيه «المتوكلي فيما في القرآن من المعرب» و «المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب» ساق بين يديها أسانيد نسبتها إلى الصحابة والتابعين كأنما يتحرز هو أيضا من القول بذلك بنفسه وقد عدّد اللغات المنقول عنها تلك الألفاظ فأوصلها إلى عشر وهي الحبشية والفارسية والرومية والهندية والسريانية والعبرانية والنبطية والقبطية والتركية والزنجية والبربرية.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["حمۤ","وَٱلۡكِتَـٰبِ ٱلۡمُبِینِ","إِنَّا جَعَلۡنَـٰهُ قُرۡءَ ٰ نًا عَرَبِیࣰّا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ","وَإِنَّهُۥ فِیۤ أُمِّ ٱلۡكِتَـٰبِ لَدَیۡنَا لَعَلِیٌّ حَكِیمٌ","أَفَنَضۡرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكۡرَ صَفۡحًا أَن كُنتُمۡ قَوۡمࣰا مُّسۡرِفِینَ","وَكَمۡ أَرۡسَلۡنَا مِن نَّبِیࣲّ فِی ٱلۡأَوَّلِینَ","وَمَا یَأۡتِیهِم مِّن نَّبِیٍّ إِلَّا كَانُوا۟ بِهِۦ یَسۡتَهۡزِءُونَ","فَأَهۡلَكۡنَاۤ أَشَدَّ مِنۡهُم بَطۡشࣰا وَمَضَىٰ مَثَلُ ٱلۡأَوَّلِینَ"],"ayah":"حمۤ"}