* اللغة:
(بِطانَةً) بطانة الرجل بكسر الباء ووليجته من يطلعه على أسراره ثقة به وارتكانا على مودته. وهو مشبه ببطانة الثوب، وهي خلاف ظهارته. وفي مختار الصحاح: «وليجة الرجل خاصته وبطانته» ومنه قول الشاعر:
وهم خلصائي كلهم وبطانتي ... وهم عيبتي من دون كل قريب
(يَأْلُونَكُمْ) من ألا في الأمر أي قصر فيه. ويتعدى إلى مفعولين، لأنه يتضمن معنى المنع، يقال: لا آلوك نصحا، أي: لا أمنعك نصحا.
وقيل: هو لازم لا ينصب مفعولا. وسيأتي ذلك مفصلا في باب الإعراب.
(خَبالًا) الخبال بفتح الخاء: الفساد، وأصله ما يلحق الحيوان من مرض وفتور فيورثه فسادا واضطرابا، يقال: خبله بالتخفيف، وخبّله بالتشديد، فهو خابل ومخبّل، وذاك مجنون ومخبّل.
(عَنِتُّمْ) العنت بفتح العين والنون: شدة الضرر والمشقة.
* الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) كلام مستأنف مسوق لتحذير المؤمنين من موالاة اليهود، لما بينهم من أواصر قرابة وصداقة، والمراد إطلاقه، فموالاة المستعمر الأثيم لا تجوز مطلقا.
وقد تقدم إعراب النداء ولا ناهية وتتخذوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وبطانة مفعول به ومن دونكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبطانة أي كائنة من غيركم أو من غير أبناء جنسكم، ويجوز تعليقها بتتخذوا فيكون الجار والمجرور في موضع المفعول به الثاني لتتخذوا، وعلى الأول مفعول تتخذوا الثاني محذوف إيجازا، وتقديره أصفياء أو أولياء (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا) الجملة مستأنفة كأنها بمثابة البيان لحال البطانة الكافرة العدوة، وقيل هي صفة ثانية لبطانة، لا نافية ويألونكم فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والكاف مفعول به أول وخبالا مفعول به ثان. وإذا قلنا الفعل لازم فتكون الكاف في محل نصب بنزع الخافض أي: لا يألون لكم، وخبالا منصوب أيضا بنزع الخافض أي: في الخبال، ولك أن تنصبه على التمييز أو على أنه مصدر في موضع الحال (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) الجملة مستأنفة كسابقتها، وقيل:
هي صفة ثالثة لبطانة، وكلاهما صحيح، وودوا فعل وفاعل وما مصدرية مؤولة مع ما في حيزها بمصدر هو المفعول به أي ودوا عنتكم وضرركم وسوء ثقتكم (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) الجملة مستأنفة أيضا أو هي صفة رابعة لبطانة، وقد حرف تحقيق وبدت فعل ماض مبني على الفتح المقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والبغضاء فاعل ومن أفواههم جار ومجرور متعلقان ببدت وعلقهما أبو البقاء بمحذوف منصوب على الحال. ومعنى ظهور البغضاء من أفواههم أنهم ينسبون بما ينم على البغضاء المركوزة في سلائقهم وخلالهم (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) الواو للحال أو للاستئناف، فالجملة حالية أو مستأنفة وما اسم موصول مبتدأ وجملة تخفي صلة وصدورهم فاعل تخفي وأكبر خبر «ما» (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) الجملة مستأنفة تفيد التعليل مسوقة لتقرير أن الآيات المترادفة جديرة بحملكم على موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه، وقد حرف تحقيق وبينا فعل ماض وفاعل ولكم جار ومجرور متعلقان ببينا والآيات مفعول به وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسم كنتم وجملة تعقلون خبر كنتم، والجواب محذوف تقديره فلا توادوهم أبدا.
* البلاغة:
1- الاستعارة التصريحية في قوله بطانة إذ هي في الأصل بطانة الثوب المعروفة ثم استعيرت لخصيص الرجل وصفيه الذي يفضي إليه بذات نفسه وخلجات صدره.
2- الانفصال: وهو أن يقول المتكلم ما يوهم أنه معلوم ظاهر، ولكنه ينطوي على أمر وراء ذلك، وهو أبعد غاية وأسمى متناولا، وذلك في قوله «من أفواههم» فإن المعلوم أن المرء يعبر عما يكنه بفمه، والانفصال في ذلك التسجيل عليهم بأنهم لا يتمالكون أن تند عن ألسنتهم ألفاظ تنم على الشعور بالبغضاء والموجدة.
3- الطباق بين بدت وتخفي.
* الفوائد:
اختلف علماء النحو والبيان في إعراب الجمل الواقعة بعد بطانة، وقد أجزنا أن تكون مستأنفات على وجه التعليل للنهي عن اتخاذهم بطانة من دون جنسكم وأبناء قومكم. وعليه جرى الزمخشري فقال: «الأحسن والأبلغ أن تكون مستأنفات، ويجوز أن تكون صفات متعاقبة» . وقد منع الواحدي هذا الوجه لعدم وجود حرف العطف، وزعم أنه لا يقال: لا تتخذ صاحبا يؤذيك أحب مفارقتكم. على أنه يظهر لي أن الصفة تتعدد بغير عاطف كما يتعدد الخبر نحو «الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان» .
بين ابن هشام والرازي:
تعقب ابن هشام الإمام فخر الدين الرازي بصدد هذه الآية فقال مانصه: «وحصل للإمام فخر الدين في تفسير هذه الآية سهو، فإنه سأل:
ما الحكمة في تقديم «من دونكم» على «بطانة» ؟ وأجاب بأنّ محط النهي هو «من دونكم» لا «بطانة» فلذلك قدم الأهم وليست التلاوة كما ذكر.
وأبو حيان وهم وتبعه الصفاقسيّ والحلبيّ:
ومضى ابن هشام في تعقيبه قائلا: ونظير هذا أن أبا حيان فسر في سورة الأنبياء كلمة «زبرا» بعد قوله تعالى: «وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ» وإنما هي في سورة المؤمنون، وترك تفسيرها هناك، وتبعه على هذا السهو رجلان لخصا من تفسيره إعرابا.
قلت: أراد ابن هشام بالرجلين اللذين شاركا أبا حيان في سهوه هما الصفاقسي وشهاب الدين الحلبي المعروف بالسمين.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ بِطَانَةࣰ مِّن دُونِكُمۡ لَا یَأۡلُونَكُمۡ خَبَالࣰا وَدُّوا۟ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَاۤءُ مِنۡ أَفۡوَ ٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِی صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ قَدۡ بَیَّنَّا لَكُمُ ٱلۡـَٔایَـٰتِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ"}