* اللغة:
(بَصائِرَ) : البصيرة: العقل والفطنة والعبرة والشاهد والحجة يقال: جوارحه بصيرة عليه أي شهود وفراسة ذات بصيرة أي صادقة والجمع بصائر وقوله «بصائر للناس» أي أنوارا لقلوبهم تبصر بها الحقائق وتميز بها بين الحق والباطل بعد أن كانت عميا عن الفهم والإدراك بالكلية فالبصيرة نور القلب الذي به يستبصر كما أن البصر نور العين الذي به تبصر وسيأتي المزيد من معناها في باب الإعراب.
(ثاوِياً) : مقيما، يقال ثوى يثوي من باب ضرب ثواء وثويا المكان وفيه وبه أقام وثوى الرجل مات قال عبيد بن الأبرص في مطلع معلقته:
آذنتنا ببنيها أسماء ... رب ثاو يملّ منه الثواء
* الإعراب:
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل وموسى مفعول به أول والكتاب مفعول به ثان ومن بعد متعلقان بآتينا وما مصدرية وأهلكنا فعل وفاعل والقرون مفعول به والأولى صفة. (بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) بصائر حال من الكتاب أو مفعول لأجله، وعلى الحالية لا بد من تقدير مضاف أي ذا بصائر، أو على المبالغة، وللناس نعت لبصائر وهدى ورحمة عطف على بصائر ولعلهم يتذكرون لعل واسمها وجملة يتذكرون خبرها. (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) الواو عاطفة أو استئنافية وما نافية وكنت كان واسمها وبجانب خبرها والغربي مضاف إليه أي وما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي فيكون من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، واختاره الزجاج، وقال الكلبي بجانب الوادي الغربي أي حيث ناجى موسى ربه، وإذ ظرف لما مضى متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الجار والمجرور وجملة قضينا مجرورة بإضافة الظرف إليها والأمر مفعول به والواو حرف عطف وما نافية وكنت كان واسمها ومن الشاهدين خبرها والأمر المقضي هو الوحي الذي أوحي إليه.
(وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) الواو عاطفة ولكن واسمها وجملة أنشأنا خبرها ونا فاعل وقرونا مفعول به فتطاول عطف على أنشأنا وعليهم متعلقان بتطاول والعمر فاعل. (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) الواو عاطفة وما نافية وكنت كان واسمها وثاويا خبرها وفي أهل مدين متعلقان بثاويا وجملة تتلو في موضع نصب خبر ثان لكنت أو حال من الضمير في ثاويا، ولكنا الواو حالية أو عاطفة ولكن واسمها وجملة كنا خبرها وكان واسمها وجملة مرسلين خبرها.
(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) الواو عاطفة وما نافية وكنت كان واسمها وبجانب خبر كنت والطور مضاف اليه والظرف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر وهو بجانب والخطاب في الآيتين لمحمد صلى الله عليه وسلم أي وما كنت حاضرا المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى عليه السلام ولا كنت من الشاهدين الوحي ولا كنت بجانب الطور حين ناديناه ليأخذ التوراة، وجملة نادينا في محل جر بإضافة الظرف إليها، ولكن الواو عاطفة ولكن حرف استدراك مهمل لأنه خفف ورحمة مفعول لأجله أي أرسلناك وعلمناك هذا كله رحمة ومن ربك صفة لرحمة. (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لتنذر اللام للتعليل وتنذر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بأرسلناك المحذوفة وإنما جر المفعول لأجله باللام لاختلاف الفاعل وقوما مفعول به ومن حرف جر زائد ونذير مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل ومن قبلك صفة لنذير ولعل واسمها وجملة يتذكرون خبرها.
* البلاغة:
1- جناس التحريف:
في قوله: «ولكنا كنا مرسلين» جناس التحريف الذي يكون الضبط فيه فارقا بين الكلمتين أو بعضهما وقد مرت له نظائر وستمر نظائر كثيرة ومثاله في الشعر قول أبي العلاء المعري:
والحسن يظهر في شيئين رونقه ... بيت من الشعر أو بيت من الشعر
وله أيضا:
لغيري زكاة من جمال فإن تكن ... زكاة جمال فاذكري ابن سبيل فالتجنيس في الأول بين «الشعر» و «الشعر» وفي الثاني بين «جمال» و «جمال» وما ألطف قول بهاء الدين زهير:
زها ورد خديك لكنه ... بغير النواظر لم يقطف
وقد زعموا أنه مضعف ... وما علموا أنه مضعفي
2- الاشارة:
وقد تقدم بحث هذا الفن أكثر من مرة وتتناوله الآن بصورة مسهبة كما نتناول الرمز الذي شاع في العصر الحديث ليكون كتابنا جامعا لأفانين الأدب، أما الإشارة في الآية فهي: ما أشارت اليه كلمة «الأمر» من قوله «وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر» فقد أشارت إلى ابتداء نبوة موسى وخطاب الحق له وإعطائه الآيات البينات من إلقاء العصا لتصير ثعبانا وإخراج يده بيضاء وإرساله إلى فرعون، وسؤاله شدّ عضده بأخيه هارون، إلى جميع ما جرى في ذلك المقام، وأمثال هذه المواضيع إذا تقصاها الباحث خرجت عن حد الحصر في الكتاب العزيز.
الاشارة في الشعر:
وقد قدمنا نماذج شعرية من هذا الفن، ويرى قدامة أن أفضل بيت في الإشارة قول زهير:
وإني لو لقيتك فاجتمعنا ... لكان لكل مندية لقاء فقد أشار له بقبح ما كان يصنع لو لقيه. وأنشد الحاتمي عن علي بن هارون عن أبيه عن حماد عن أبيه اسحق بن ابراهيم الموصلي:
جعلنا السيف بين الخدّ منه ... وبين سواد لمته عذارا
فأشار إلى هيئة الضربة التي أصابه بها دون ذكرها إشارة لطيفة دلت على كيفيتها وانما وصف أنهم ضربوا عنقه. ومن أنواع الاشارة التفخيم والإيماء فأما التفخيم فكقول الله تعالى «الحاقة ما الحاقة» وقول كعب بن سعد الغنوي:
أخي ما أخي لا فاحش عند بيته ... ولا ورع عند اللقاء هيوب
وأما الإيماء فكقوله تعالى «فغشيهم من اليم ما غشيهم» فأومأ إلى ما غشيهم وترك التفسير وتقدم ذكره بعنوان الإبهام، وقال كثير صاحب عزة:
تجافيت عني حين لا لي حيلة ... وخلفت ما خلفت بين الجوانح
فقوله «خلفت ما خلفت» إيماء مليح.
ومن أنواع الاشارة الرمز كقول أحدهم يصف امرأة قتل زوجها وسبيت:
عقلت لها من زوجها عدد الحصى ... مع الصبح أو مع جنح كل أصيل يريد أني لم أعطها عقلا ولا قودا بزوجها إلا الهم الذي يدعوها إلى عدّ الحصى، وأصل العقل أخذ الدية، وعدد الحصى مفعول عقلت وأصله من قول امرئ القيس:
ظللت ردائي فوق رأسي قاعدا ... أعد الحصى ما تنقضي عبراتي
يريد أنه لما غشي ديار الحي فلم يجد أحدا وضع رداءه فوق رأسه وجلس مفكرا يعد الحصى ودموعه لا ترقأ، ومن مليح الرمز قول أبي نواس يصف كئوسا ممزوجة فيها صور منقوشة وقد تقدم ذكر هذه الأبيات ومنها هنا:
قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مها تدّريها بالقسيّ الفوارس
فللخمر ما زرّت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس
يقول: ان حدّ الخمر من صور هذه الفوارس التي في الكئوس إلى التراقي والنحور وزيد الماء فيها مزاجا فانتهى الشراب إلى فوق رءوسها، ويجوز أن يكون انتهاء الحباب إلى ذلك الموضع لما مزجت فأزبدت، والأول أملح، وفائدته معرفة حدها صرفا من معرفة حدها ممزوجة وهذا عندهم مما سبق اليه أبو نواس.
الرمزية في الشعر الحديث:
كان نشوء الرمزية رد فعلّ ضد الواقعية التي أسرفت في التأثر بالعلم والبعد عن الخيال الشعري وكما استطاعت الواقعية أن تزحزح الرومانتيكية عن مكانتها كان نشوء الرمزية إيذانا بتراجع الواقعية لتحل محلها تلك الحركة الجديدة التي احتلت الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
والشعر عند أصحاب هذا المذهب- كما يقول بعضهم- «نشوة وحلم يحملان الإنسان إلى حيز اللاوعي حيث يلمح هناك من الحقائق ما لا يستطيع رؤياها عن طريق العقل والمنطق في العالم الواعي وهو لا يجد في العالم الباطني صورا تامة الوضوح يستطيع التعبير عنها تعبيرا صريحا ولكنه يعبر عنها بالرمز حتى يستطيع أن يوحي للقارىء بنفس الاحساس وينقله إلى نفس الحالة» .
ومن هنا جاء الغموض في الرمزية، ثم أمعنوا في الإبهام وغلفوا الشعر بغلاف من الضباب، فأسقطوا حروف التشبيه واعتمدوا على الكلمة في ايحائهم يقدمونها ويؤخرونها عن موضعها عن قصد حتى تزيد من اشعاعاتها الموحية، وكذلك طابقوا بين الحروف والألوان وبين الألوان والمعاني فاللون الأحمر يرمز للحياة الصاخبة والدم وشهوة الحبّ والأعاصير. والأخضر يمثل الكون والطبيعة والبحر، والأزرق يمثل الانطلاق إلى ما وراء المادة الكونية حيث عالم الملائكة والموسيقى التي تبلغ الأعماق. واللون البنفسجي لون الرؤى الصوفية، والأصفر للحزن والتحفز نحو عالم أفضل، والأبيض يشف عن الهدوء والسكينة والطهر. ويعبر بودلير الشاعر الفرنسي الرمزي عن العلاقة بين الألوان والعطور والأصوات في قصيدته التي يتناول فيها وحدة الطبيعة فيقول: الطبيعة معبد ذو أعمدة حية تنبعث منه أحيانا كلمات غامضة فيمر الإنسان من خلال غابات الرموز تحدق فيه بنظرات ألفته.
وتتمازج الأصداء الطويلة البعيدة الغموض في وحدة مظلمة عميقة رحبة كالليل وكالضياء وتتجاوب العطور والألوان والأصوات وحسبنا ما أوردناه، ومن أراد المزيد فليرجع إلى ما كتب في هذا الصدد وهو كثير.
3- الاحتراس:
وفي هذه الآية نفسها فن الاحتراس وقد تقدم ذكره كثيرا، ولعل الاحتراس الذي وقع في هذه الآية أعجب احتراس وقع في القرآن فالخطاب كما قلنا موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما نفى تبارك وتعالى عن رسوله الكريم كونه بالمكان الذي قضى لكليمه موسى الأمر عرّف المكان بالجانب الغربي ولم يصفه باليمين كما قال في الإخبار عن موسى عليه السلام: «وناديناه من جانب الطور الأيمن» أدبا منه سبحانه مع نبيه أن ينفي عنه كونه في الجانب الأيمن ووصف سبحانه الجانب هاهنا باليمين إذ أخبر أنه نادى منه كليمه موسى تشريفا له.
هذا ولا بد من الإلماع إلى أن قوله «بجانب الغربي» أصله أن يكون صفة أي بالجانب الغربي ولكن حول عن ذلك وجعله صفة لمحذوف ضرورة امتناع إضافة الموصوف إلى الصفة إذ كانت هي الموصوف في المعنى وإضافة الشيء إلى نفسه خطأ والتقدير جانب المكان الغربي.
{"ayahs_start":43,"ayahs":["وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَـٰبَ مِنۢ بَعۡدِ مَاۤ أَهۡلَكۡنَا ٱلۡقُرُونَ ٱلۡأُولَىٰ بَصَاۤىِٕرَ لِلنَّاسِ وَهُدࣰى وَرَحۡمَةࣰ لَّعَلَّهُمۡ یَتَذَكَّرُونَ","وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلۡغَرۡبِیِّ إِذۡ قَضَیۡنَاۤ إِلَىٰ مُوسَى ٱلۡأَمۡرَ وَمَا كُنتَ مِنَ ٱلشَّـٰهِدِینَ","وَلَـٰكِنَّاۤ أَنشَأۡنَا قُرُونࣰا فَتَطَاوَلَ عَلَیۡهِمُ ٱلۡعُمُرُۚ وَمَا كُنتَ ثَاوِیࣰا فِیۤ أَهۡلِ مَدۡیَنَ تَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِنَا وَلَـٰكِنَّا كُنَّا مُرۡسِلِینَ","وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلطُّورِ إِذۡ نَادَیۡنَا وَلَـٰكِن رَّحۡمَةࣰ مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوۡمࣰا مَّاۤ أَتَىٰهُم مِّن نَّذِیرࣲ مِّن قَبۡلِكَ لَعَلَّهُمۡ یَتَذَكَّرُونَ"],"ayah":"وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَـٰبَ مِنۢ بَعۡدِ مَاۤ أَهۡلَكۡنَا ٱلۡقُرُونَ ٱلۡأُولَىٰ بَصَاۤىِٕرَ لِلنَّاسِ وَهُدࣰى وَرَحۡمَةࣰ لَّعَلَّهُمۡ یَتَذَكَّرُونَ"}