الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ﴾، الآيَةَ. ذَكَرَ الأصَمُّ: أنَّهُ راجِعٌ إلى أهْلِ الكِتابِ، لِأنَّهُ مَذْكُورٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿إنَّ كَثِيرًا مِنَ الأحْبارِ والرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أمْوالَ النّاسِ بِالباطِلِ﴾ . وغَيْرُهُ حَمَلَ ذَلِكَ عَلى كُلِّ كافِرٍ، وذَلِكَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ، ومَعْطُوفٌ عَلى المُتَقَدِّمِ بِاللَّفْظِ العامِّ، لِأنَّهُ وصْفٌ لِما تَقَدَّمَ، ولِأنَّهُ مُسْتَقِلٌّ، وإنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِما تَقَدَّمَ. وقَدْ رُوِيَ عَنْ أبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ قائِلًا قالَ لَهُ وهو بِالرَّبَذَةِ: ما أنْزَلَكَ هَذا المَنزِلَ؟ فَقالَ: كُنّا بِالشّامِ، فَقَرَأْتُ هَذِهِ الآيَةَ، فَقالَ مُعاوِيَةُ: نَزَلَتْ في أهْلِ الكِتابِ لا فِينا. فَقُلْتُ: لا، بَلْ فِينا وفِيهِمْ. وكَتَبَ مُعاوِيَةُ إلى عُثْمانَ: أنَّ أبا ذَرٍّ يَطْعَنُ فِينا، ويَقُولُ كَذا، فَكَتَبَ إلَيَّ عُثْمانُ بِالإقْبالِ إلَيْهِ، فَأقْبَلْتُ، فَلَمّا قَدِمْتُ المَدِينَةَ، كَثُرَ عَلَيَّ النّاسُ حَتّى كَأنَّهم لَمْ يَرَوْنِي فَآذَوْنِي، فَشَكَوْتُ إلى عُثْمانَ، فَقالَ: تَنَحَّ قَرِيبًا، فَتَنَحَّيْتُ إلى مَنزِلِي هَذا. وأكْثَرُ العُلَماءِ عَلى أنَّ الوَعِيدَ عَلى الكَنْزِ عَلى مَن يَمْنَعُ حَقَّ اللَّهِ تَعالى فِيهِ، فَما لَمْ يُؤَدَّ حَقُّ اللَّهِ تَعالى مِنهُ، فَهو كَنْزٌ كانَ عَلى وجْهِ الأرْضِ، أوْ تَحْتَهُ. ورُوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: (p-١٩٧)«ما مِن صاحِبِ كَنْزٍ لا يُؤَدِّي زَكاةَ كَنْزِهِ إلّا جِيءَ يَوْمَ القِيامَةِ فَيُحْمى ويُكْوى بِهِ جَنْبُهُ وجَبِينُهُ». وقالَ: «مَن لَهُ مالٌ فَأدّى زَكاتَهُ فَقَدْ سَلِمَ» . ولا خِلافَ في جَوازِ دَفْنِ المالِ المُزَكّى أوْ غَيْرِ المُزَكّى إذا أدّى زَكاتَهُ مِن مَوْضِعٍ آخَرَ. وقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: أنَّ المُرادَ بِالآيَةِ العُدُولُ عَنِ الإكْثارِ وجَمْعِ المالِ، وعَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قالَ: «يَجِيءُ كَنْزُ أحَدِكم شُجاعٌ أقْرَعُ، فَإذا رَأى صاحِبُهُ هَرَبَ مِنهُ فَيَطْلُبُهُ فَيَقُولُ: أنا كَنْزُكَ» . وعَلى الجُمْلَةِ، المَعْقُولُ مِنَ الآيَةِ تَعْلِيقُ الوَعِيدِ عَلى مَن كَنَزَ، ولَمْ يُنْفِقْ في سَبِيلِ اللَّهِ، ولَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْواجِبِ وغَيْرِهِ، غَيْرَ أنَّ صِفَةَ الكَنْزِ لا يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً، فَإنَّ مَن لَمْ يَكْنِزْ، ومَنَعَ الإنْفاقَ في سَبِيلِ اللَّهِ، فَلا بُدَّ أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، فَلا أثَرَ لِصِفَةِ الكَنْزِ، ولَيْسَ في الآيَةِ بَيانُ الواجِبِ مِن غَيْرِهِ، ولَكِنْ مِنَ المَعْقُولِ أنَّ صُورَةَ الكَنْزِ كَما لا تُعْتَبَرُ، فالِامْتِناعُ مِن أداءِ ما لَيْسَ بِواجِبٍ لا يُعْتَبَرُ أيْضًا، وإذا لَمْ يُعْتَبَرْ هَذا، ولا ذاكَ جُمْلَةً، فَلَيْسَ إلّا أنَّ المُرادَ مَنعُ الواجِبِ مِنَ الزَّكاةِ وغَيْرِهِ، إلّا أنَّ الَّذِي يُخَبَّأُ تَحْتَ الأرْضِ هو الَّذِي يُمْنَعُ إنْفاقُهُ في الواجِباتِ عُرْفًا، فَلِذَلِكَ خُصَّ الوَعِيدُ بِهِ. وإذا كانَ المَقْصُودُ مِن ذِكْرِ الكَنْزِ أنَّ صاحِبَهُ يُمْسِكُهُ ولا يُنْفِقُ مِنهُ في سَبِيلِ اللَّهِ تَعالى، فَظَنَّ قَوْمٌ أنَّ مَن صاغَ الدَّراهِمَ حُلِيًّا، ولا يُزَكِّي مِنهُ، فَهو كانِزٌ. (p-١٩٨)وهَذا اسْتِدْلالٌ بِطَرِيقِ المَعْنى، وإلّا فاللَّفْظُ مِن حَيْثُ الظّاهِرُ لا يَدُلُّ عَلَيْهِ أصْلًا. ويُحْتَمَلُ أيْضًا مِن وجْهٍ آخَرَ، وهو أنَّ هَذِهِ الآيَةَ إنَّما نَزَلَتْ في وقْتِ شِدَّةِ الحاجَةِ، وضَعْفِ المُهاجِرِينَ، وقُصُورِ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَنْ كِفايَتِهِمْ، ولَمْ يَكُنْ في بَيْتِ المالِ ما يَسَعُهُمْ، وكانَتِ السُّنُونَ والحَوائِجُ هاجِمَةً عَلَيْهِمْ، فَنُهُوا عَنْ إمْساكِ شَيْءٍ مِنَ المالِ زائِدٍ عَلى قَدْرِ الحاجَةِ، ولا يَجُوزُ ادِّخارُ الذَّهَبِ والفِضَّةِ في مِثْلِ ذَلِكَ الوَقْتِ، وإلّا فَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ المُسْتَفِيضِ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إيجابُهُ في مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، خَمْسَةُ دَراهِمَ، وفي عِشْرِينَ دِينارًا، نِصْفُ دِينارٍ، ولَمْ يُوجِبِ الكُلَّ، واعْتَبَرَ مُدَّةَ الِاسْتِنْماءِ، وكانَ في الصَّحابَةِ ذَوُو ثَرْوَةٍ ونِعْمَةٍ وأمْوالٍ جَمَّةٍ، مِثْلُ عُثْمانَ وعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. أوْ يُحْتَمَلُ أنَّ قَوْلَهُ: ولا يُنْفِقُونَها، أيْ لا يُنْفِقُونَ مِنها تُحْذَفُ مِن، وبَيَّنَهُ في مَواضِعَ أُخَرَ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً﴾ [التوبة: ١٠٣] . وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ﴾، فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلى المُسْلِمِينَ، فَقالَ عُمَرُ: أنا أُفَرِّجُ عَنْكُمْ، فانْطَلَقَ، فَقالَ: يا نَبِيَّ اللَّهِ، إنَّهُ كَبُرَ عَلى أصْحابِكَ هَذِهِ الآيَةُ. فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”إنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يَفْرِضِ الزَّكاةَ إلّا لِيُطَيِّبَ ما بَقِيَ مِن أمْوالِكُمْ، وإنَّما فَرَضَ المَوارِيثَ لِتَكُونَ لِمَن بَعْدَكُمْ“، فَكَبَّرَ عُمَرُ». (p-١٩٩)فَأبانَ بِهَذا الحَدِيثِ أنَّ المُرادَ بِهِ إنْفاقُ بَعْضِ المالِ لا جَمِيعِهِ، وأنَّ قَوْلَهُ: ( الَّذِينَ يَكْنِزُونَ ) المُرادُ بِهِ مَنعُ الزَّكاةِ. ورَوى سُهَيْلُ بْنُ أبِي صالِحٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ما مِن صاحِبِ كَنْزٍ لا يُؤَدِّي زَكاةَ كَنْزِهِ إلّا جِيءَ بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ وبِكَنْزِهِ، فَيُكْوى بِهِ جَنْبُهُ وجَبِينُهُ حَتّى يَحْكُمَ اللَّهُ تَعالى بَيْنَ عِبادِهِ» . فَأخْبَرَ في هَذا الحَدِيثِ، أنَّ الحَقَّ الواجِبَ في الكَنْزِ هو الزَّكاةُ دُونَ غَيْرِهِما، إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَتُكْوى بِها جِباهُهم وجُنُوبُهم وظُهُورُهم هَذا ما كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ٣٥] . يَعْنِي أنَّهُ لَمْ يُؤَدُّوا زَكاتَهُ. ورَوى ابْنُ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: «الَّذِي لا يُؤَدِّي زَكاتَهُ، يُمَثَّلُ لَهُ مالُهُ يَوْمَ القِيامَةِ، شُجاعًا أقْرَعَ لَهُ ذَبِيبَتانِ تَلْزَمُهُ أوْ يُطَوِّقُهُ، فَيَقُولُ: أنا كَنْزُكَ أنا كَنْزُكَ»، فَأخْبَرَ أنَّ المالَ الَّذِي لا يُزَكّى هو الكَنْزُ، فَبانَ بِهِ أنَّ الكَنْزَ اسْمٌ لِما لا يُؤَدّى زَكاتُهُ في عُرْفِ الشَّرْعِ، والوَعِيدُ انْصَرَفَ إلَيْهِ، فاعْلَمْهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب