الباحث القرآني
(p-١٧١)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ بَراءَةٌ
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾، الآيَةَ.
اعْلَمْ أنَّ الإمامَ إذا اسْتَشْعَرَ مِن أهْلِ العَهْدِ جِنايَةً، أوْ تَوَقَّعَ مِنهم غائِلَةً، كانَ لَهُ نَبْذُ عَهْدِهِمْ إلَيْهِمْ، دَفْعًا لِغائِلَتِهِمْ، حَتّى لا يُؤْتى مِن حَيْثُ لا يَشْعُرُ، إلّا أنَّهُ إنَّما يَجُوزُ ذَلِكَ بِأنْ يُجاهِرَ بِنَبْذِ العَهْدِ إلَيْهِمْ، حَتّى لا يَكْتَسِبَهم مُغافَصَةً، فَيُشْبِهَ الغَدْرَ، ويَجُوزُ أيْضًا أنْ يُعاهِدَ المُشْرِكِينَ إلى أنْ يَرى فِيهِ رَأْيَهُ، كَما عاهَدَ أهْلَ خَيْبَرَ، وقالَ في العَهْدِ: أُقِرُّكم ما أقَرَّكُمُ اللَّهُ، ثُمَّ أجْلاهم عُمَرُ، وكُلُّ ذَلِكَ جائِزٌ.
وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ: ﴿بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾: يَدُلُّ عَلى أنَّ عَهْدًا قَدْ تَقَدَّمَ بَيْنَهُمْ، وأنَّهُ قَدْ نُقِضَ.
(p-١٧٢)يَبْقى أنْ يُقالَ: فَلِمَ قالَ: ﴿فَسِيحُوا في الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ﴾ [التوبة: ٢]، وإذا انْتَقَضَ العَهْدُ فَلِمَ جازَ الإمْهالُ؟
فَيُقالُ: لا يَبْعُدُ جَوازُ الإمْهالِ لِما فِيهِ مِنَ المَصْلَحَةِ في تَدَبُّرِ مَن أُمْهِلَ في عاقِبَةِ أمْرِهِ، ومَآلِ حالِهِ، وأنَّ ذَلِكَ يَكُونُ داعِيًا إلى الإسْلامِ، وإنَّما لا يَحْسُنُ الإمْهالُ لِمَن يَتَوَقَّعُ الغَوْثَ، فَأمّا مَن لا يَخْشى الغَوْثَ، فَلا يَقْبُحُ مِنهُ الإمْهالُ، ودَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿واعْلَمُوا أنَّكم غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾ [التوبة: ٢] .
ومَعْناهُ: غَيْرُ مُعْجِزِيهِ بِتَمْكِينِ نَبِيِّهِ مِنهُمْ، ونُصْرَتِهِ عَلَيْهِمْ، أوْ نَفاذِ مُرادِ اللَّهِ تَعالى فِيهِمْ بِما شاءَ، وهو مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأنَّ اللَّهَ مُخْزِي الكافِرِينَ﴾ [التوبة: ٢] .
فَكانَ المَقْصُودُ مِنَ التَّسَمُّحِ بِهَذِهِ المُدَّةِ، التَّوَصُّلَ إلى هَذِهِ البُغْيَةِ، وهو رَجاءُ الإسْلامِ.
وإذا بانَ السَّبَبُ الَّذِي لِأجْلِهِ يَجُوزُ نَبْذُ عُهُودِ الكُفّارِ إلَيْهِمْ، فَقَدْ «قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إنَّ المُشْرِكِينَ أخَذُوا في نَقْضِ عُهُودِهِمُ الَّتِي بَيْنَهم وبَيْنَهُ ﷺ، فَأمَرَ اللَّهُ تَعالى نَبِيَّهُ فِيمَن كانَ عَهْدُهُ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ أنْ يُقِرَّهُ إلى مُضِيِّ هَذِهِ المُدَّةِ، وذَلِكَ مِن يَوْمِ النَّحْرِ إلى عَشْرٍ مِن شَهْرِ رَبِيعٍ الآخِرِ، ومَن كانَ لَهُ مِنَ العَهْدِ أكْثَرُ، أمَرَ أنْ يُحَطَّ إلى ذَلِكَ، ومَن كانَ أقَلَّ، أمَرَ أنْ يَرْجِعَ بِهِ إلى هَذا القَدْرِ، ومَن لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ، أمَرَ أنْ يَجْعَلَ لَهُ خَمْسِينَ لَيْلَةً مِن يَوْمِ النَّحْرِ إلى انْسِلاخِ المُحَرَّمِ، إلّا حَيًّا مِن بَنِي كِنانَةَ، كانَ قَدْ بَقِيَ مِن عَهْدِهِمْ تِسْعَةُ أشْهُرٍ، فَأمَرَ اللَّهُ تَعالى أنْ يُتِمَّ عَهْدَهم إلى مُدَّتِهِمْ، وهو مَعْنى قَوْلِهِ: (p-١٧٣)﴿إلا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ٤] - إلى قَوْلِهِ - ﴿فَأتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهم إلى مُدَّتِهِمْ﴾ [التوبة: ٤]، الآيَةَ».
وذَكَرَ التَّبَرِّيَ وقَطْعَ العِصْمَةِ، وبَعَثَ عَلِيًّا بِذَلِكَ، لِيُنادِيَ فِيهِمْ مَعَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكم شَيْئًا ولَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكم أحَدًا فَأتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهم إلى مُدَّتِهِمْ﴾ [التوبة: ٤] .
واعْلَمْ أنَّ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وقَعَتْ مِنهم مُظاهَرَةٌ أوْ مُخابَرَةٌ وخِداعٌ، يَقْتَضِي نَقْضَ العَهْدِ والإخْلالَ بِهِ، ولِذَلِكَ قالَ: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وعِنْدَ رَسُولِهِ إلا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ فَما اسْتَقامُوا لَكم فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ [التوبة: ٧]، الآيَةَ.
فَلَوْ كانَ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمُ الِاسْتِقامَةَ في العَهْدِ، لَمْ يُجِزْ مِنهُ تَعالى أنْ يَتَبَرَّأ مِنهم ويَنْقَضَ عَهْدَهُمْ، فَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ قَدْ كانَ تَقَدَّمَ مِنهم نَقْضُ العَهْدِ، إمّا ظاهِرًا وإمّا سِرًّا.
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ في سُورَةِ التَّوْبَةِ: إنَّها هي الفاضِحَةُ، فَهَذا القَوْلُ مِنهُ يَدُلُّ عَلى أنَّهم نَكَثُوا وأسَرُّوا بِهِ، فَأظْهَرَ اللَّهُ تَعالى لِنَبِيِّهِ ما أسَرُّوهُ بِالبَراءَةِ مِنهُمْ، ونَبْذِ العَهْدِ إلَيْهِمْ.
وذُكِرَ في النَّقْضِ وجْهٌ آخَرُ، مِن حَيْثُ اسْتَبْعَدَ هَؤُلاءِ النَّقْضَ مِن جَمِيعِ المُشْرِكِينَ سِرًّا، فَقالَ: سَبَبُ نَقْضِ العَهْدِ، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمّا أرادَ أنْ يَحُجَّ لِقابِلٍ، وأنَّ اللَّهَ تَعالى أعْلَمَهُ ذَلِكَ، وأنَّهُ لا يَتَفَرَّغُ إلى الحَجِّ إلّا بَعْدَ العامِ القابِلِ، لِقُرْبِ أجَلِهِ، وكانَ المُشْرِكُونَ يَطُوفُونَ بِالبَيْتِ عُراةً في الطَّوافِ، والتَّعَرِّي بِحَضْرَتِهِ شِرْكٌ وكُفْرٌ، فاقْتَضى ذَلِكَ نَقْضَ العَهْدِ.
(p-١٧٤)وهَذا باطِلٌ، فَإنَّهُ لا يَجُوزُ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ النَّقْضُ لِهَذِهِ العِلَّةِ، فَإنَّ مِنَ المُمْكِنِ أنْ يُخْلى لَهُ البَيْتُ ساعَةً، ولا يُمَكِّنَ المُشْرِكِينَ مِنَ الطَّوافِ في تِلْكَ الحالَةِ، كَما طافَ في عُمْرَةِ القَضاءِ وأخْلى لَهُ المُشْرِكُونَ البَيْتَ.
والَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالأحْكامِ مِنَ الآيَةِ أنَّهُ: لا يَجُوزُ نَبْذُ عَهْدِ الكُفّارِ إلى الكُفّارِ إلّا بِنَقْضٍ ظاهِرٍ مِنهُمْ، أوْ تَوَقُّعِ نَقْضٍ، أوْ إبْهامٍ في مُدَّةِ العَهْدِ، مِثْلُ أنْ يَقُولَ: نُقِرُّكم ما أقَرَّكُمُ اللَّهُ. ثُمَّ الأمانُ، فَسَدَ أوْ صَحَّ، لا يَجُوزُ نَقْضُهُ بِالِاغْتِيالِ، بَلْ بِإظْهارِ نَبْذِ العَهْدِ إلَيْهِمْ.
فَهَذا ما يَتَعَلَّقُ بِالفِقْهِ مِنَ الآيَةِ، وما ذُكِرَ في الآيَةِ: ﴿إلا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكم شَيْئًا ولَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكم أحَدًا﴾ [التوبة: ٤]، الآيَةَ.
والمُتَعَلِّقُ بِالأحْكامِ مِنهُ وراءَ ما ذَكَرْناهُ، أنَّ مَن كانَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ وبَيْنَهم عَهْدٌ، فَإذا ظاهَرُوا عَلَيْنا قَوْمًا مِنَ الأعْداءِ فَهو نَقْضُ العَهْدِ، سَواءٌ ظاهَرُوا سِرًّا أوْ جَهْرًا.
{"ayah":"بَرَاۤءَةࣱ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۤ إِلَى ٱلَّذِینَ عَـٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق