الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ﴾ الآيَةَ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّها مَناسِكُ الحَجِّ، فَعَلى هَذا تَشْتَمِلُ عَلى الصَّفا والمَرْوَةِ والبَدَنِ وغَيْرِها. وقِيلَ: مَعالِمُ اللَّهِ تَعالى وأحْكامُهُ: شَعائِرُهُ، فَإنَّ شَعائِرَهُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الإعْلامِ، ومِنهُ مَشاعِرُ البَدَنِ وهي الحَواسُّ، وهي أيْضًا المَواضِعُ الَّتِي أشْعَرَتْ بِالعَلاماتِ، ومِنهُ قَوْلُ القائِلِ: شَعَرْتُ بِهِ: أيْ: عَلِمْتُهُ، لا يَشْعُرُونَ: أيْ: لا يَعْلَمُونَ، ومِنهُ الشّاعِرُ، لِأنَّهُ شَعَرَ بِفِطْنَتِهِ بِما لا يَشْعُرُ بِهِ غَيْرُهُ، فالشَّعائِرُ: العَلاماتُ. فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ﴾: اشْتَمَلَ عَلى جَمِيعِ مَعالِمِ دِينِ اللَّهِ، وهو ما أعْلَمَنا اللَّهُ تَعالى مِن فَرائِضِ دِينِهِ وعَلاماتِها أنْ لا تَتَجاوَزَ واحِدَةً ولا تُقَصِّرَ فِيما دُونَها، وهَذا أشْمَلُ التَّأْوِيلاتِ. (p-١٤)والهَدْيُ: ما يُتَقَرَّبُ بِهِ مِنَ الذَّبائِحِ والصَّدَقاتِ، ومِنهُ قَوْلُهُ ﷺ: «المُبَكِّرُ لِلْجُمُعَةِ كالمُهْدِي بَدَنَةً”، إلى أنْ قالَ: “كالمُهْدِي بَيْضَةً» . فَسَمّاها هَدْيًا، فَتَسْمِيَةُ البَيْضَةِ هَدْيًا لا مَحْمَلَ لَهُ إلّا أنَّهُ أرادَ بِالهَدْيِ الصَّدَقَةَ، ولِذَلِكَ قالَ العُلَماءُ: إذا قالَ: جَعَلْتُ ثَوْبِي هَدْيًا، فَعَلَيْهِ أنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ. إلّا أنَّ الإطْلاقَ يَنْصَرِفُ إلى أحَدِ الأصْنافِ مِنَ الإبِلِ والغَنَمِ، وسَوْقِها إلى الحَرَمِ، وذَبْحِها فِيهِ، وهَذا شَيْءٌ تَلْقى مَن عَرَفَ الشَّرْعَ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ [البقرة: ١٩٦]، أرادَ بِهِ: الشّاةَ.وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنكم هَدْيًا بالِغَ الكَعْبَةِ﴾ [المائدة: ٩٥] . وقالَ تَعالى: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ [البقرة: ١٩٦] . وأقَلُّهُ عِنْدَ الفُقَهاءِ شاةٌ، فَإذا أُطْلِقَ الهَدْيُ تَناوَلَ ذَبْحَ أحَدِ هَذِهِ الأصْنافِ الثَّلاثَةِ في الحَرَمِ. فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا الهَدْيَ﴾ أرادَ بِهِ: النَّهْيَ عَنْ إحْلالِ الهَدْيِ الَّذِي قَدْ جَعَلَ لِلذَّبْحِ في الحَرَمِ، وإحْلالُهُ: اسْتِباحَتُهُ لِغَيْرِ ما سِيقَ لَهُ مِنَ الفِدْيَةِ. (p-١٥)وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى المَنعِ مِن الِانْتِفاعِ بِالهَدْيِ بِصَرْفِهِ إلى جِهَةٍ أُخْرى، ويَدُلُّ عَلى تَحْرِيمِ الأكْلِ مِنَ الهَدْيِ نَذْرًا كانَ أوْ واجِبًا، مِن إحْصارٍ أوْ جَزاءِ صَيْدٍ، ويَمْنَعُ الأكْلَ مِن هَدْيِ المُتْعَةِ والقِرانِ، عَلى ما هو مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ، وخالَفَهُ فِيهِ أبُو حَنِيفَةَ. وفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى أصْلٍ آخَرَ، وهو أنَّ الشّافِعِيَّ يَقُولُ: إذا كانَ مُطْلَقُ الهَدْيِ يَتَناوَلُ الأصْنافَ الثَّلاثَةَ عَلى خِلافِ ما يَقْتَضِيهِ حَقُّ الوَضْعِ، فَهو لِعُرْفِ الشَّرْعِ وتَقْيِيدِهِ المُطْلَقِ مِنَ الهَدْيِ بِالأصْنافِ، فَإذا كانَ كَذَلِكَ فَلَمْ نَجِدْ في عُرْفِ الشَّرْعِ، إلّا أنَّ لَفْظَ الهَدْيِ تَكَرَّرَ في الكِتابِ في مَواضِعَ، فاقْتَضى ذَلِكَ كَوْنَ الهَدْيِ صَرِيحًا في التَّقْيِيدِ بِالأصْنافِ الثَّلاثَةِ، وإنْ تَناوَلَ مِن حَيْثُ اللُّغَةُ ما سِواهُ، كَذَلِكَ لَفْظُ الفِراقِ والسَّراحِ مِن حَيْثُ تَكَرَّرا في الكِتابِ والسُّنَّةِ، صارا صَرِيحَيْنِ في مَعْنى الطَّلاقِ، وإنْ كانَ اللَّفْظَيْنِ مُحْتَمِلَيْنِ لِما سِواهُ، وهَذا بَيِّنٌ ظاهِرٌ. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا الشَّهْرَ الحَرامَ﴾: عَنى بِهِ الأشْهُرَ الحُرُمَ؛ ثَلاثَةٌ مُتَوالِيَةٌ وواحِدٌ مُفْرَدٌ، المُفْرَدُ: رَجَبٌ، والمُتَوالِيَةُ: ذُو القِعْدَةِ وذُو الحِجَّةِ والمُحَرَّمُ. وذَلِكَ مَنسُوخٌ بِجَوازِ قَتْلِ الكُفّارِ في أيِّ وقْتٍ كانَ. وقَوْلُهُ: ﴿ولا القَلائِدَ﴾: نَهى عَنِ اسْتِباحَةِ الهَدْيِ وصَرَفَهُ إلى جِهَةٍ أُخْرى، ونَهى عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْقَلائِدِ: وهي أنَّ المُحْرِمِينَ كانُوا يُقَلِّدُونَ أنْفُسَهم والبَهائِمَ مِن لِحا شَجَرِ الحَرَمِ، وكانَ قَدْ حَرُمَ إذْ ذاكَ ما (p-١٦)هَذا وصْفُهُ، فَنَسَخَ ذَلِكَ في الآدَمِيِّ، وقَرَّرَ في البَهائِمِ عَلى ما كانَ. وإذا كانَ كَذَلِكَ، فَلا يَجُوزُ اسْتِباحَتُهُ، ويَجُوزُ التَّصَدُّقُ بِهِ، ولَكِنْ إذا فَعَلَ ذَلِكَ، فَمُجَرَّدُ فِعْلِهِ لا نَقُولُ: إنَّهُ حُرُمٌ، ولَكِنْ لا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ، ولَيْسَ في الآيَةِ تَعَرُّضٌ لَها. قَوْلُهُ: ﴿لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ﴾: نَسَخَها قَوْلُهُ: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] . و( فَإنْ جاءوكَ فاحْكم بَيْنَهم بِما أنْزَلَ اللَّهُ ) . وقَوْلُهُ: ﴿ولا آمِّينَ البَيْتَ الحَرامَ﴾: مَعْناهُ: أنَّ الكُفّارَ كانُوا إذا قَلَّدُوا أنْفُسَهم قِلادَةً مِن شَعَرٍ مَنَعَتْهُ مِنَ النّاسِ، وكانَ الكُفّارُ عَلى هَذِهِ السُّنَّةِ، فَأُمِرَ المُسْلِمُونَ أنْ لا يَتَعَرَّضُوا لَهُمْ، ولا يَتَعَرَّضُوا لِلْكُفّارِ الَّذِينَ يَؤُمُّونَ البَيْتَ، ثُمَّ أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى بَعْدَ هَذا: ﴿إنَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذا﴾ [التوبة: ٢٨] . وقالَ: ﴿ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ﴾ [التوبة: ١٧] . * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا آمِّينَ البَيْتَ الحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِن رَبِّهِمْ﴾ . الآيَةَ، وهو التِّجارَةُ. (p-١٧)﴿ورِضْوانًا﴾: وهو الحَجُّ. وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الَّذِي يَقْصِدُ الحَجَّ لا يَلْزَمُهُ الإحْرامُ، إلّا إذا أرادَ الحَجَّ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى يَقُولُ: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلا مِن رَبِّهِمْ ورِضْوانًا﴾، وهو قَوْلٌ لِلشّافِعِيِّ، ثُمَّ قالَ: ﴿وإذا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا﴾ . هَذا إطْلاقٌ وإباحَةٌ لِما كانَ قَدْ حَرَّمَ مِن قَبْلُ. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا يَجْرِمَنَّكم شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ الآيَةَ . مَعْناهُ: أيْ: لا يَكْسِبَنَّكم شَنْآنُ قَوْمٍ، أيِ: البُغْضُ، أنْ تَتَعَدَّوُا الحَقَّ إلى الباطِلِ، والعَدْلَ إلى الظُّلْمِ.قالَ ﷺ: «أدِّ الأمانَةَ إلى مَنِ ائْتَمَنَكَ، ولا تَخُنْ مَن خانَكَ» . وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ إنَّما يَجُوزُ مُقابَلَةُ الظّالِمِ بِما يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عُقُوبَةً لَهُ وقَدْ أذِنَ فِيهِ، فَأمّا بِالجِناياتِ والمَحْظُوراتِ فَلا يَجُوزُ مُعاقَبَتُهُ. ذَكَرُوا أنَّ سَبَبَ نُزُولِ الآيَةِ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ وأصْحابَهُ كانُوا بِالحُدَيْبِيَةِ حِينَ صَدَّهُمُ المُشْرِكُونَ عَنِ البَيْتِ، فَمَرَّ بِهِمْ ناسٌ مِنَ المُشْرِكِينَ مِن أهْلِ نَجْدٍ يُرِيدُونَ العُمْرَةَ، فَقالُوا: إنّا نَصُدُّ هَؤُلاءِ كَما صَدَّنا أصْحابُهم. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿ولا آمِّينَ البَيْتَ الحَرامَ﴾».
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب