الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فاذْكُرُوا اللَّهَ قِيامًا وقُعُودًا﴾ الآيَةُ . واعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ لَفْظَ الذِّكْرِ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ، وأرادَ بِهِ الصَّلاةَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيامًا وقُعُودًا وعَلى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٩١] . فَرُوِيَ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، رَأى النّاسَ يَضِجُّونَ في المَسْجِدِ فَقالَ: ما هَذِهِ الضَّجَّةُ؟ قالُوا: ألَيْسَ اللَّهُ تَعالى يَقُولُ: اذْكُرُوا اللَّهَ قِيامًا وقُعُودًا وعَلى جَنُوبِكُمْ؟ قالَ: إنَّما يَعْنِي بِهَذِهِ الصَّلاةَ المَكْتُوبَةَ، إنْ لَمْ تَسْتَطِعْ قائِمًا فَقاعِدًا، وإلّا فَعَلى جَنْبِكَ. وقالَ الحَسَنُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيامًا وقُعُودًا وعَلى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٩١] . هَذِهِ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى لِلْمَرِيضِ أنْ يُصَلِّيَ قاعِدًا، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلى جَنْبِهِ. والمُرادُ نَفْسُ الصَّلاةِ، لِأنَّ الصَّلاةَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعالى، وقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلى الأذْكارِ المَفْرُوضَةِ والمَسْنُونَةِ، فَسَمّاها اللَّهُ تَعالى ذِكْرًا لِذَلِكَ، وسَمّاها رُكُوعًا، وكُلُّ ذَلِكَ تَعْبِيرٌ عَنِ الصَّلاةِ بِما تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ. فَأمّا الذِّكْرُ الَّذِي في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿فَإذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ﴾ (p-٤٩٤)فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ ذِكْرَ اللَّهِ تَعالى بِالقَلْبِ وبِاللِّسانِ وهو الظّاهِرُ، فَإنَّهُ تَعالى ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ الفَراغِ مِنَ الصَّلاةِ، فَقالَ: ﴿فَإذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فاذْكُرُوا اللَّهَ قِيامًا وقُعُودًا وعَلى جُنُوبِكُمْ﴾ . وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإذا اطْمَأْنَنْتُمْ﴾، مَعْناهُ فَإذا رَجَعْتُمْ إلى أوْطانِكُمْ، فَعُودُوا إلى إتْمامِ الصَّلاةِ ودَعُوا القَصْرَ، فَإنَّهُ زالَ الخَوْفُ والسَّفَرُ، فارْجِعُوا إلى إتْمامِ الأرْكانِ إنْ كانَ القَصْرُ قَصْرًا في الأوْصافِ. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلى المُؤْمِنِينَ كِتابًا مَوْقُوتًا﴾ . قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَوْقُوتٌ: مُنَجَّمٌ، كُلَّما مَضى نَجْمٌ دَخَلَ نَجْمٌ آخَرُ. وقالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ عَلى أنَّ الصَّلاةَ مَفْرُوضَةٌ في أوْقاتٍ مَعْلُومَةٍ عَلى نُوَبٍ مَضْبُوطَةٍ، غَيْرَ أنَّ هَذِهِ دَلالَةٌ حَمْلِيَّةٌ، وأشارَ إلى تَفاصِيلِها في مَواضِعَ أُخَرَ مِن كِتابِهِ، مِن غَيْرِ تَحْدِيدِ أوائِلِها وأواخِرِها، وبَيَّنَ عَلى لِسانِ الرَّسُولِ ﷺ مَقادِيرَها فِيما ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى في الكِتابِ في أوْقاتِ الصَّلَواتِ، فَمِن جُمْلَةِ تِلْكَ الآياتِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ وقُرْآنَ الفَجْرِ﴾ [الإسراء: ٧٨] . ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: دُلُوكُ الشَّمْسِ، زَوالُها عَنْ بَطْنِ السَّماءِ لِصَلاةِ الظُّهْرِ، إلى غَسَقِ اللَّيْلِ، وهو صَلاةُ المَغْرِبِ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَ ذَلِكَ في دَلُوكِها أنَّهُ زَوالُها. (p-٤٩٥)وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: دُلُوكُها: زَوالُها. ورُوِيَ عَنْهُ وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في رِوايَةٍ أُخْرى، أنَّ دُلُوكَها غُرُوبُها. واللَّفْظُ يَحْتَمِلُ المَعْنَيَيْنِ. والدُّلُوكُ في الأصْلِ المَيْلُ، فَدُلُوكُ الشَّمْسِ مَيْلُها، وقَدْ تَمِيلُ تارَةً لِلزَّوالِ وتارَةً لِلْغُرُوبِ، فَقالَ الرّازِيُّ: إذًا عَنى بِالدُّلُوكِ أوَّلَ الوَقْتِ، وغَسَقُ اللَّيْلِ نِهايَتُهُ، لِأنَّهُ تَعالى قالَ: إلى غَسَقِ اللَّيْلِ، وإلى غايَةٌ. ومَعْلُومٌ أنَّ وقْتَ الظُّهْرِ لا يَتَّصِلُ بِغَسَقِ اللَّيْلِ، لِأنَّ بَيْنَهُما وقْتَ العَصْرِ، فالأظْهَرُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالدُّلُوكِ ها هُنا هو الغُرُوبُ، وغَسَقُ اللَّيْلِ اجْتِماعُ الظُّلْمَةِ، لِأنَّ وقْتَ المَغْرِبِ يَتَّصِلُ بِغَسَقِ اللَّيْلِ ويَكُونُ نِهايَتَهُ. والِاعْتِراضُ عَلى ما ذُكِرَ أنْ يُقالَ: إنَّهُ لَوْ كانَ عَلى ما ذَكَرَهُ، ما كانَ في كِتابِ اللَّهِ إشارَةٌ إلى صَلاةِ الظُّهْرِ والعَصْرِ، والظَّهْرُ أوَّلُ ما نَزَلَ مِنَ الصَّلَواتِ، والعَصْرُ الصَّلاةُ الوُسْطى عِنْدَ الأكْثَرِينَ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أنْ لا يَقَعَ التَّعَرُّضُ لَهُما، ويَقَعَ التَّعَرُّضُ لِصَلاةِ اللَّيْلِ أوَّلًا إلى صَلاةِ الفَجْرِ ويُغْفِلُ صَلاتَيِ النَّهارِ مَعَ أنَّ المَيْلَ في الشَّمْسِ غَيْرُ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإنَّ الشَّمْسَ تَمِيلُ قَبْلَ أنْ تَغْرُبَ، فَلا يُقالُ: مالَتِ الشَّمْسُ بِمَعْنى غَرَبَتْ، إلّا أنْ يُقالَ: مالَتْ لِلْغُرُوبِ، فَإنَّهُ يُقالُ لِلشَّمْسِ وقْتَ الظُّهْرِ: إنَّها مائِلَةٌ، ولا يُقالُ لَها بَعْدَ ما غَرَبَتْ مائِلَةٌ. يَبْقى أنْ يُقالَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿إلى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ [الإسراء: ٧٨]، ولا يَتَّصِلُ أوَّلُ الظَّهْرِ بِغَسَقِ اللَّيْلِ، فَيُقالُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإنَّ ما بَيْنَ زَوالِ الشَّمْسِ المُعَبَّرِ عَنْهُ بِالدُّلُوكِ، إلى غَسَقِ اللَّيْلِ، وقْتًا لِصَلَواتٍ عِدَّةٍ، (p-٤٩٦)وهِيَ الظَّهْرُ، والعَصْرُ، والمَغْرِبُ، فَيُفِيدُ ذَلِكَ أنَّ مِن وقْتِ الزَّوالِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ، لا يَخْرُجُ أنْ يَكُونَ وقْتًا لِصَلاةٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الظُّهْرُ والعَصْرُ والمَغْرِبُ، فَأبانَ اللَّهُ تَعالى أنَّ بَيْنَ زَوالِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ وقْتًا لِصَلَواتٍ عِدَّةٍ، فَيَدْخُلُ فِيها الظَّهْرُ والعَصْرُ والمَغْرِبُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَدْخُلَ فِيهِ العَتَمَةُ أيْضًا، لِأنَّ الغايَةَ قَدْ تَدْخُلُ في الحُكْمِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وأيْدِيَكم إلى المَرافِقِ﴾ [المائدة: ٦]، وقَوْلُهُ: ﴿حَتّى تَغْتَسِلُوا﴾ [النساء: ٤٣]، والغُسْلُ داخِلٌ في شَرْطِ الإباحَةِ. وإذا حُمِلَ الدُّلُوكُ عَلى الزَّوالِ، اشْتَمَلَتِ الآيَةُ عَلى خَمْسِ صَلَواتٍ، فالأرْبَعَةُ مِنَ الزَّوالِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ، والخامِسَةُ قُرْآنُ الفَجْرِ. ولَمّا كانَ بَيْنَ الصُّبْحِ والظُّهْرِ وقْتٌ لَيْسَ مِن أوْقاتِ الصَّلَواتِ المَفْرُوضَةِ، أبانَ اللَّهُ تَعالى أنَّ مِن وقْتِ الزَّوالِ إلى وقْتِ العَتَمَةِ وقْتًا لِلصَّلاةِ مَفْعُولَةً فِيهِ. وأفْرَدَ الفَرْدَ بِالذِّكْرِ، إذْ كانَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الصَّلَواتِ المَفْرُوضَةِ وقْتٌ لَيْسَ مِن أوْقاتِ الصَّلَواتِ المَفْرُوضَةِ، وقالَ تَعالى في بَيانِ المَواقِيتِ أيْضًا عَلى نَحْوِ ما سَلَفَ. ﴿وأقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾ [هود: ١١٤] . ورُوِيَ عَنْ عُمَرَ وعَنِ الحَسَنِ في قَوْلِهِ طَرَفَيِ النَّهارِ. الصُّبْحُ والظُّهْرُ والعَصْرُ. وزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ: المَغْرِبُ والعِشاءُ. فَعَلى هَذا القَوْلِ قَدِ انْتَظَمَتِ الآيَةُ الصَّلَواتِ الخَمْسَ. (p-٤٩٧)ورَوى يُونُسُ عَنِ الحَسَنِ: ﴿وأقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾ [هود: ١١٤] قالَ: المَغْرِبُ والعِشاءُ. فَعَلى هَذا القَوْلِ قَدِ انْتَظَمَتِ الآيَةُ الصَّلَواتِ الخَمْسَ. وعَنِ الحَسَنِ في رِوايَةٍ: أقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ، قالَ: هو الفَجْرُ والعَصْرُ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: جَمَعَتْ هَذِهِ الآيَةُ مَواقِيتَ الصَّلاةِ. ﴿فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ﴾ [الروم: ١٧]: المَغْرِبُ والعِشاءُ، ﴿وحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم: ١٧]: الفَجْرُ، ﴿وعَشِيًّا﴾ [الروم: ١٨]: العَصْرُ، ﴿وحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ [الروم: ١٨]، الظُّهْرُ. وعَنِ الحَسَنِ مِثْلُهُ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: ﴿وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ غُرُوبِها ومِن آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وأطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى﴾ [طه: ١٣٠] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب