الباحث القرآني

(p-٢٧٦)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (p-٢٧٧)سُورَةُ آلِ عِمْرانَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هو الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ﴾ . فَجَعَلَ اللَّهُ آياتِ الكِتابِ مُنْقَسِمَةً إلى المُحْكَمِ والمُتَشابِهِ، وسَمّى المُحْكَماتِ أُمَّ الكِتابِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي رَدَّ المُتَشابِهاتِ إلَيْها، فَإنَّ الأُمَّ لا يَظْهَرُ لَها مَعْنًى ها هُنا، سِوى أنَّها الأصْلُ لِما سِواها، ويُفْهَمُ مِنها مَعانِي المُتَشابِهاتِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَ المُتَشابِهِ مُحْتَمِلًا لِمَعانٍ مُخْتَلِفَةٍ، يَتَعَرَّفُ مُرادَ اللَّهِ مِنها بِرَدِّها إلى المُحْكَماتِ، وإنْ كانَ كَثِيرٌ مِنها يَسْتَدِلُّ بِالأدِلَّةِ العَقْلِيَّةِ عَلى مَعْرِفَةِ المُرادِ مِنها. ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: سُمِّيَتِ المُحْكَماتِ إمّا: لِأنَّها أنْفَعُ لِعِبادِ اللَّهِ تَعالى، وأفْضَلُ مِنَ المُتَشابِهاتِ، كَما سُمِّيَتْ فاتِحَةُ الكِتابِ أُمَّ الكِتابِ، وسُمِّيَتْ مَكَّةُ أُمَّ القُرى. ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: سُمِّيَ المُحْكَماتُ أُمَّ الكِتابِ لِأنَّهُ يَلُوحُ مَعْناها، (p-٢٧٨)فَيُسْتَنْبَطُ مِنها الفَوائِدُ، ويُقاسُ عَلَيْها فَسَمّاها أُمَّ الكِتابِ: أيِ الأُمَّ والأصْلَ مِنَ الكِتابِ. فَعَلى المَحْمَلِ الأوَّلِ، إذا قُلْنا مَعْنى أُمِّ الكِتابِ أنَّ المُتَشابِهاتِ مَرْدُودَةٌ إلى المُحْكَماتِ، ومُعْتَبَرَةً بِها، ومَقِيسَةً عَلَيْها، فالمُتَشابِهاتُ هي الَّتِي تَحْتَمِلُ مَعانِيَ مُخْتَلِفَةً، فَيَتَعَرَّفُ مُرادَ اللَّهِ مِنها بِالمُحْكَماتِ. وإذا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، فالمُتَشابِهاتُ يَجُوزُ أنْ يُعْنى بِها ما لَمْ يُعْلَمْ مَعْناهُ مِن آياتِ السّاعَةِ وغَيْرِها، وحُرُوفِ التَّهَجِّي الَّتِي ظَنَّ قَوْمٌ أنَّها أُودِعَتْ مَعانِيَ لا يَعْلَمُها إلّا اللَّهُ، وإنْ كانَ ذَلِكَ فاسِدًا عِنْدَنا. والمُتَعَلِّقُ بِالأحْكامِ أنَّ تَأْوِيلَ ما يَتَعَلَّقُ بِأحْكامِ الشَّرْعِ واجِبٌ، وما لا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَلا يَجِبُ ويَجُوزُ. وقَدْ ظَنَّ قَوْمٌ أنَّهُ لا يَجُوزُ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ﴾ . وقَدْ جَعَلَ قَوْمٌ تَمامَ الكَلامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿والرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾ وجَعَلَ الواوَ في قَوْلِهِ: ﴿والرّاسِخُونَ﴾ لِلْجَمْعِ. ومِنهم مَن جَعَلَ تَمامَ الكَلامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿إلا اللَّهُ﴾، وأنَّ مَعْناهُ ﴿وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا اللَّهُ﴾ يَعْنِي تَأْوِيلَ المُتَشابِهاتِ، والرّاسِخُونَ في العِلْمِ يَعْلَمُونَ بَعْضَهُ قائِلِينَ: ﴿آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا﴾، بِما نُصِبَ مِنَ الدَّلائِلِ في المُحْكَمِ، ومَكَّنَ مِن رَدِّهِ إلَيْهِ، فَإذا عَلِمُوا تَأْوِيلَ بَعْضِهِ ولَمْ يَعْلَمُوا البَعْضَ قالُوا: آمَنّا بِالجَمِيعِ، كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا، وما لَمْ يَحُطْ عِلْمُنا بِهِ مِنَ الخَفايا مِمّا في شَرْعِهِ المَصالِحُ، فَعِلْمُنا عِنْدَ رَبِّنا. (p-٢٧٩)ومِنَ النّاسِ مَن حَرَّمَ تَأْوِيلَ المُتَشابِهاتِ ورَأى أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ في المُحْكَماتِ: ﴿هُنَّ أُمُّ الكِتابِ﴾ أيْ فَواتِحُ السُّوَرِ، أوْ هي الأوامِرُ والنَّواهِي ومَجامِعُ التَّكالِيفِ الَّتِي هي عِمادُ الدِّينِ، كَما أنَّ عِمادَ البابِ أمُّ البابِ، واسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: ﴿وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا اللَّهُ﴾ . وقالَ قَوْمٌ: ﴿والرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَضْمُومًا إلى قَوْلِهِ: ﴿إلا اللَّهُ﴾، لِأنَّها لَوْ كانَتْ لِلْجَمْعِ لَقالَ: ويَقُولُونَ آمَنّا بِهِ، ويُسْتَأْنَفُ ذِكْرُ الواوِ لِاسْتِئْنافِ الخَبَرِ. والَّذِينَ خالَفُوا هَذا الرَّأْيَ ذَكَرُوا أنَّ مِثْلَ هَذا شائِعٌ، وقَدْ وُجِدَ مِثْلُهُ في القُرْآنِ، وهو قَوْلُهُ في شَأْنِ قَسْمِ الفَيْءِ. ﴿ما أفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِن أهْلِ القُرى فَلِلَّهِ ولِلرَّسُولِ﴾ [الحشر: ٧] إلى قَوْلِهِ: ﴿شَدِيدُ العِقابِ﴾ [الحشر: ٧] . ثُمَّ تَلاهُ بِالتَّفْصِيلِ، وتَسْمِيَةِ مَن يَسْتَحِقُّ هَذا الفَيْءَ فَقالَ: ﴿لِلْفُقَراءِ المُهاجِرِينَ﴾ [الحشر: ٨]، إلى قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ جاءُوا مِن بَعْدِهِمْ﴾ [الحشر: ١٠] . وهم لا مَحالَةَ داخِلُونَ في اسْتِحْقاقِ الفَيْءِ كالأوَّلِينَ، والواوُ فِيهِ لِلْجَمْعِ ثُمَّ قالَ: ﴿يَقُولُونَ رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ولإخْوانِنا﴾ [الحشر: ١٠] . كَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿والرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾، يَقُولُونَ مَعْناهُ: والرّاسِخُونَ في العِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ ما نَصَبَ لَهُمُ الدَّلالَةَ عَلَيْهِ مِنَ المُتَشابِهِ قائِلِينَ: ”رَبَّنا آمَنّا“، فَصارُوا مَعْطُوفَيْنِ عَلى ما قَبْلَهُ داخِلَيْنِ في خَبَرِهِ. (p-٢٨٠)ولِأنَّهم إذا مَنَعُوا تَأْوِيلَ المُتَشابِهِ، ووَجَبَ اتِّباعُ الظّاهِرِ، تَناقَضَتِ الظَّواهِرُ ووَقَعَتِ الأحْكامُ العَقْلِيَّةُ والسَّمْعِيَّةُ، وهَؤُلاءِ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ إلى هَذا الظّاهِرِ، أوْ لا يَنْظُرُونَ إلى ظاهِرِ الواوِ في دَلالَتِهِ عَلى الجَمْعِ المَذْكُورِ ولَمْ يُحِلُّوا ذَلِكَ عَلى الِابْتِداءِ وقَطْعِ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وذَلِكَ خِلافُ ظاهِرِ دَلالَةِ الواوِ وهَذا بَيِّنٌ. فَأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ، ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ﴾، فَمِثْلُ ما رُوِيَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ، «أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في وفْدِ نَجْرانَ لَمّا حاجُّوا النَّبِيَّ ﷺ في المَسِيحِ فَقالُوا: ألَيْسَ هو كَلِمَةُ اللَّهِ ورُوحٌ مِنهُ؟ فَقالَ: بَلى. فَقالُوا: حَسَنًا، أيْ أنّا لا نَسْمَعُ مِنكَ بَعْدَ هَذا قَوْلَكَ إنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، بَعْدَ أنْ قُلْتَ إنَّهُ رُوحُ اللَّهِ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ﴾». (p-٢٨١)ثُمَّ أنْزَلَ تَعالى: ﴿إنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرابٍ﴾ [آل عمران: ٥٩]، الآيَةُ. وقالَ: ﴿هُوَ الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابَ﴾ . مَعْناهُ: إنَّ كَوْنَ عِيسى عَبْدَ اللَّهِ، مُحْكَمٌ عَلى مَعْنى أنَّ التَّأْوِيلَ لا يَتَطَرَّقُ إلى الآياتِ الدّالَّةِ عَلى أنَّ عِيسى عَبْدُ اللَّهِ. وقَوْلُهُ: ”كَلِمَةُ اللَّهِ“ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ: أنَّهُ الَّذِي بُشِّرَ بِهِ في كُتُبِ الأنْبِياءِ المُتَقَدِّمِينَ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ [مريم: ٣٤] الآيَةُ. فَسَمّاهُ كَلِمَةً وقَوْلًا مِن حَيْثُ قَدَّمَ البِشارَةَ بِهِ. وسُمِّيَ رُوحَهُ، لِأنَّهُ خُلِقَ مِن غَيْرِ ذَكَرٍ، بَلْ أُمِرَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَنَفَخَ في جَيْبِ مَرْيَمَ فَقالَ: ﴿فَنَفَخْنا فِيهِ مِن رُوحِنا﴾ [التحريم: ١٢]، فَأضافَ الرُّوحَ إلى نَفْسِهِ تَشْرِيفًا لَهُ كَبَيْتِ اللَّهِ، وأرْضِ اللَّهِ، وسَماءِ اللَّهِ. وقَدْ سَمّى القُرْآنُ رُوحًا، لِأنَّهُ يُحْيِي بِهِ مِنَ الضَّلالِ، وسَمّى عِيسى رُوحًا، لِأنَّهُ كانَ يُحْيِي بِهِ النّاسَ في أُمُورِ دِينِهِمْ، فَصَرَفَ أهْلُ الزَّيْغِ ذَلِكَ إلى مَذاهِبِهِمُ الفاسِدَةِ، وإلى ما يَعْتَقِدُونَهُ مِنَ الكُفْرِ والضَّلالِ، فَهَذا مِثالُ المُحْكَمِ والمُتَشابِهِ، الَّذِي يَجِبُ أنْ يُرَدَّ مَعْناهُ إلى مَعْنى المُحْكَمِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب