الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إلا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ المَسِّ﴾ والرِّبا في اللُّغَةِ هو الزِّيادَةُ. ورُبَّما لا تَعْرِفُ العَرَبُ بَيْعَ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمِ نَساءَ رِبًا، إلّا أنَّ الشَّرْعَ أثْبَتَ زِياداتٍ جائِزَةً، وحَرَّمَ أنْواعًا مِنَ الزِّيادَةِ، فَجَوَّزَ الزِّيادَةَ مِن جِهَةِ الجَوْدَةِ، ولِمَ يُجَوِّزْ مِن جِهَةِ المُدَّةِ. وإذا اخْتَلَفَ الجِنْسُ يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَفاضِلًا نَقْدًا، ولا يَجُوزُ مُتَماثِلًا نَسِيئَةً. وكُلُّ ذَلِكَ لا يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الرِّبا، ولَكِنَّ ذَلِكَ لا يَمْنَعُ التَّعَلُّقَ بِعُمُومِ (p-٢٣٢)اللَّفْظِ، وعُمُومُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الزِّيادَةِ مُطْلَقًا إلّا ما خَصَّهُ الشَّرْعُ. * * * وقَوْلُهُ: ﴿وأحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ﴾ . يَقْتَضِي جَوازَ ما لا زِيادَةَ فِيهِ، إلّا ما خَصَّهُ دَلِيلُ الشَّرْعِ، فَنَحْنُ نَحْتاجُ إلى البَيانِ فِيما لَمْ يَرِدْ بِاللَّفْظِ، وما دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ مُحَرَّمٌ مَعَ غَيْرِهِ، فَلا بُدَّ مِن بَيانٍ في الَّذِي ما أُرِيدَ بِاللَّفْظِ، وفي تَخْصِيصِ بَعْضِ ما أُرِيدَ بِاللَّفْظِ. واللَّهُ تَعالى حَرَّمَ الرِّبا، فَمِنَ الرِّبا ما كانُوا يَعْتادُونَهُ في الجاهِلِيَّةِ مِن إقْراضِ الدَّنانِيرِ والدَّراهِمِ بِزِيادَةٍ. والنَّوْعُ الآخَرُ: تَحْرِيمُ الإسْلامِ الدَّراهِمَ في الدَّراهِمِ والدَّنانِيرِ مِن غَيْرِ زِيادَةٍ. ورَأى ابْنُ عَبّاسٍ أنَّ سِياقَ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ المَذْكُورَ في كِتابِ اللَّهِ رِبا النَّساءِ، لا رِبا الفَضْلِ فَإنَّهُ قالَ: ﴿فَلَهُ ما سَلَفَ﴾ . ﴿وذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا﴾ [البقرة: ٢٧٨] . وقالَ: ﴿وإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠] . وقالَ تَعالى: ﴿وإنْ تُبْتُمْ فَلَكم رُءُوسُ أمْوالِكم لا تَظْلِمُونَ ولا تَظْلِمُونَ﴾ [البقرة: ٢٧٩] . وقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ في خُطْبَةِ الوَداعِ: «كُلُّ رِبًا مَوْضُوعٌ، ولَكم رُؤُوسُ أمْوالِكم لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ، قَضى اللَّهُ أنْ لا رِبًا، وإنَّ رِبا العَبّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَلِّبِ مَوْضُوعٌ، وإنَّ كُلَّ دَمٍ كانَ في الجاهِلِيَّةِ فَإنَّهُ مَوْضُوعٌ، وأوَّلُ دِمائِكم أضَعُ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الحارِثِ كانَ مُسْتَرْضَعًا في (p-٢٣٣)بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ» . وإنْ كانَ الرِّبا يَنْقَسِمُ أقْسامًا، فالَّذِي في القُرْآنِ يَدُلُّ عَلى تَحْرِيمِ الزِّيادَةِ مِن غَيْرِ نَظَرٍ في جِنْسِ المالِ وما يُقابِلُهُ، ولا دَلالَةَ فِيهِ عَلى تَحْرِيمِ النَّساءِ مِن غَيْرِ زِيادَةٍ في نَفْسِ المالِ، لِأنَّ ذَلِكَ لا يُعَدُّ زِيادَةً في النَّسِيءِ، ولا يُقالُ: أكَلَ الرِّبا، ومِن أجْلِ ذَلِكَ جَوَّزَ بَعْضُ العُلَماءِ -وهُوَ مالِكٌ- الأجَلَ في القَرْضِ، إلّا أنّا مَنَعْنا مِن ذَلِكَ، لا مِن جِهَةِ الآيَةِ، بَلْ مِن جِهَةٍ أُخْرى. والَّذِي كانَ في الجاهِلِيَّةِ كانَ القَرْضُ بِزِيادَةٍ، وما كانُوا يُؤَجِّلُونَ إلّا بِزِيادَةٍ في نَفْسِ النَّسِيءِ. ونُقِلَ عَنِ الشّافِعِيِّ أنَّ لَفْظَ الرِّبا لَمّا كانَ غَيْرَ مَعْلُومٍ أُورِثُ احْتِمالًا في البَيْعِ، والصَّحِيحُ أنَّ الرِّبا غَيْرُ مُجْمَلٍ، ولا البَيْعُ كَما ذَكَرْناهُ، فَإنَّ ما لا زِيادَةَ فِيهِ جازَ عَلى عُمُومِ حُكْمِ البَيْعِ. نَعَمْ خُصَّ مِنَ الرِّبا زِيادَةٌ أُبِيحَتْ، وخُصَّ مِنَ البَيْعِ بِياعاتٌ نَهى عَنْها، وعُمُومُ اللَّفْظِ مُعْتَبَرٌ فِيما سِوى المَخْصُوصِ. ورَدَّ اللَّهُ تَعالى عَلى المُشْرِكِينَ في قَوْلِهِمْ: ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم قالُوا إنَّما البَيْعُ مِثْلُ الرِّبا﴾، وذَلِكَ أنَّهم زَعَمُوا أنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ الزِّيادَةِ المَأْخُوذَةِ عَلى وجْهِ الرِّبا، وبَيْنَ الأرْباحِ المُكْتَسَبَةِ بِضُرُوبِ البِياعاتِ، مِن حَيْثُ غابَ عَنْهم وجْهُ المَصْلَحَةِ، وتَحْرِيمُ الزِّيادَةِ عَلى وجْهٍ دُونَ وجْهٍ، فَأبانَ اللَّهُ تَعالى أنَّهُ عَزَّ وجَلَّ إذا حَرَّمَ الرِّبا وأحَلَّ البَيْعَ، فَلا بُدَّ أنْ يَشْتَمِلَ المَنهِيُّ عَنْهُ عَلى مَفْسَدَةٍ، والمُباحُ عَلى مَصْلَحَةٍ، وإنْ غابَتا عَنْ (p-٢٣٤)مَرْأى نَظَرِ العِبادِ، فَعَلى هَذا كُلُّ ما وُجِدَ فِيهِ حَدُّ البَيْعِ، فَيَجُوزُ أنْ يُحْتَجَّ فِيهِ بِعُمُومِ البَيْعِ. * * * وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّهِ فانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ﴾: يَدُلُّ عَلى أنَّ ما سَلَفَ مِنَ المَقْبُوضِ قَبْلَ نُزُولِ تَحْرِيمِ الرِّبا، لا يُتَعَقَّبُ بِالفَسْخِ، ويَدُلُّ عَلى أنَّهُ أرادَ غَيْرَ المَقْبُوضِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب