الباحث القرآني

ثُمَّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ . المُرادُ بِالفَرْضِ ها هُنا: تَقْدِيرُ المَهْرِ وتَسْمِيَتُهُ في العَقْدِ، وإنَّما فُهِمَ مِنهُ الفَرْضُ في العَقْدِ، لِأنَّهُ ذَكَرَ المُطَلَّقَةَ الَّتِي لَمْ يُسَمِّ لَها فَرْضًا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ [البقرة: ٢٣٦]، (p-٢٠٦)وذَلِكَ يَقْتَضِي أنْ يُعَقِّبَ بِذِكْرِ مَن فَرَضَ لَها في العَقْدِ وطُلِّقَتْ. فَأمّا المَفْرُوضُ لَها بَعْدَ العَقْدِ، إذا طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ: فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لَها مَهْرُ مِثْلِها. ومالِكٌ والشّافِعِيُّ وأبُو يُوسُفَ: يَجْعَلُونَ لَها نِصْفَ الفَرْضِ. ويَجْعَلُ أبُو حَنِيفَةَ المَفْرُوضَ بَعْدَ العَقْدِ، كالَّذِي لَمْ يُفْرَضْ، ويُوجِبُ المُتْعَةَ، ولَيْسَ لَهُ في ذَلِكَ مُسْتَنَدٌ ومَرْجِعٌ، فَإنَّ المَفْرُوضَ بَعْدَ العَقْدِ إذا أُلْحِقَ بِالعَقْدِ فَلِمَ لا يَلْحَقُهُ في حُكْمِ التَّشْطِيرِ؟ واخْتِلافُ زَمانِ الفَرْضِ لا يُغَيِّرُ حَقِيقَةَ المَفْرُوضِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ﴾ يَتَناوَلُ -بِطَرِيقِ العُمُومِ- ما بَعْدَ العَقْدِ. ولَوْ تَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أنَّ فِيما قَبْلَهُ ما يَمْنَعُ مِن هَذا العُمُومِ، فَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإنَّ ما قَبْلَهُ عَدَمُ الفَرْضِ مُطْلَقًا، وما بَعْدَهُ إثْباتُ الفَرْضِ، وإثْباتُ الفَرْضِ يَعُمُّ الأحْوالَ. ولَوْ كانَ النَّصُّ عَلى المَفْرُوضِ عِنْدَ العَقْدِ، كُنّا نُلْحِقُ بِهِ المَفْرُوضَ بَعْدَ العَقْدِ بِطَرِيقِ الِاعْتِبارِ، مِثْلُ إلْحاقِ الشَّيْءِ، بِمِثْلِ ما في مَعْناهُ.قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ يُقَوِّي أحَدَ قَوْلَيِ الشّافِعِيِّ، وأنَّ مُجَرَّدَ الخَلْوَةِ لا تُقَرِّرُ المَهْرَ.* * * (p-٢٠٧)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا أنْ يَعْفُونَ﴾ مَعْناهُ: الزَّوْجاتُ يَكُونُ عَفْوُها أنْ تَتْرُكَ الصَّداقَ، وهو النِّصْفُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعالى مِن بَعْدِ الطَّلاقِ، بِقَوْلِهِ: ﴿فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ﴾ . وقَدْ يَكُونُ الصَّداقُ عَقارًا وعَيْنًا مُعَيَّنَةً فَلا يَصِحُّ العَفْوُ فِيهِ، ولَكِنْ مَعْنى العَفْوِ هو تَرْكُها الصَّداقَ عَلَيْهِ عَلى الوَجْهِ الجائِزِ في عُقُودِ التَّمْلِيكاتِ بِأنْ تُمَلِّكَهُ إيّاهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ. والعَفْوُ: التَّسْهِيلُ، يُقالُ: جاءَ الأمْرُ عَفْوًا، أيْ سَهْلًا سَمْحًا مِن غَيْرِ تَعْوِيقٍ. فَقالَ الشّافِعِيُّ: ”فِي هَذا دَلالَةٌ عَلى جَوازِ هِبَةِ المَشاعِ فِيما يَنْقَسِمُ وفِيما لا يَنْقَسِمُ، لِإباحَةِ اللَّهِ تَعالى تَمْلِيكَ نِصْفِ المَفْرُوضِ الثّابِتِ بَعْدَ الطَّلاقِ“ . ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ ما كانَ مِنها عَيْنًا أوْ دَيْنًا وما يَحْتَمِلُ القِسْمَةَ وما لا يَحْتَمِلُها، فَوَجَبَ اتِّباعُ مُوجِبِ الآيَةِ في جَوازِ هِبَةِ المَشاعِ. نَعَمْ؛ العَفْوُ كِنايَةٌ عَنِ التَّمْلِيكِ فَتَقْدِيرُهُ: إلّا أنْ يَهَبْنَ نِصْفَ المَهْرِ ويَتْرُكْنَهُ عَلى الأزْواجِ، فَكانَ اللَّفْظُ عامًّا في جَمِيعِ ما كانَ صَداقًا. نَعَمْ؛ يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضِ الشَّرْعُ لِشُرُوطِ الهِبَةِ كالقَبْضِ وغَيْرِهِ، فَإنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مَقْصُودًا بِالذِّكْرِ، وإنَّما المَقْصُودُ مِنهُ أنَّ كُلَّ ما دَخَلَ تَحْتَ الصَّداقِ يَصِحُّ مِنهُ هِبَةُ نِصْفِهِ وتَرْكُهُ عَلى الزَّوْجِ، فَلَئِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ كِتابُ اللَّهِ تَعالى لِشُرُوطِ العَفْوِ، فَدَلالَتُهُ عَلى أنَّ ما دَخَلَ تَحْتَ الصَّداقِ يَجِبُ أنْ يَدْخُلَ تَحْتَ العَفْوِ قائِمَةٌ. * * * قَوْلُهُ: ﴿أوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ﴾ فَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِ. (p-٢٠٨)فَقالَ عَلِيٌّ وجُبَيْرُ بْنُ مُطْعَمٍ، وابْنُ المُسَيِّبِ وقَتادَةُ: هو الزَّوْجُ. وهُوَ قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ وأصْحابِهِ والثَّوْرِيِّ وأصَحِّ قَوْلَيِ الشّافِعِيِّ. وقالَ مالِكٌ: هو الأبُ في حَقِّ البِكْرِ، وهو رِوايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. ولا شَكَّ بِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ﴾، مُحْتَمِلٌ لِلْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ تَأوَّلَهُما السَّلَفُ عَلَيْهِما، فَيُنْظَرُ في أقْرَبِ الوَجْهَيْنِ إلى مَعانِي الشَّرْعِ والأُصُولِ المُحْكَمَةِ، الَّتِي تُرَدُّ المُتَشابِهاتُ إلَيْها، وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإنْ طِبْنَ لَكم عَنْ شَيْءٍ مِنهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: ٤] . فَذَكَرَ تَرْكَهُ الصَّداقَ عَلَيْها، وتَرْكَها الصَّداقَ عَلَيْهِ. فاللّائِقُ بِالبَيانِ ها هُنا أيْضًا: أنَّهُ إذا ذَكَرَ العَفْوَ مِن أحَدِ الزَّوْجَيْنِ، ذَكَرَ مِنَ الزَّوْجِ الآخَرِ، وقالَ تَعالى: ﴿وإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إحْداهُنَّ قِنْطارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنهُ شَيْئًا﴾ [النساء: ٢٠] . وقالَ: ﴿ولا يَحِلُّ لَكم أنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ [البقرة: ٢٢٩] . وكُلُّ ذَلِكَ مَنعٌ لِلزَّوْجِ مِنِ انْتِزاعِ شَيْءٍ مِنها، إلّا أنْ تَتْرُكَ هي عَلَيْهِ، أوْ يَتْرُكَ هو عَلَيْها، ما اسْتَحَقَّ اسْتِرْجاعَهُ مِنها قَبْلَ الدُّخُولِ. (p-٢٠٩)ولِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿أوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ﴾ يَقْتَضِي كَوْنَ العَقْدِ مَوْجُودًا في يَدِ مَن هو في يَدِهِ، فَأمّا عَقْدٌ غَيْرُ مَوْجُودٍ فَلَيْسَ في يَدِ أحَدٍ. نَعَمْ بَعْدَ الطَّلاقِ، لَيْسَ العَقْدُ الَّذِي كانَ بِيَدِ الزَّوْجِ في الحالِ، ولَكِنَّهُ كانَ بِيَدِ الزَّوْجِ والَّذِي كانَ مِنَ العَقْدِ لَيْسَ هو بِيَدِ الزَّوْجِ، ولَكِنَّهُ كانَ عِنْدَ وُجُودِهِ بِيَدِ الزَّوْجِ، ولِأنَّهُ قالَ: ﴿ولا تَنْسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ فَنَدَبَ إلى الفَضْلِ. وقالَ: ﴿وأنْ تَعْفُوا أقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾، ولَيْسَ في هِبَةِ مالِ الغَيْرِ إفْضالٌ مِنهُ إلى غَيْرِهِ. والمَرْأةُ لَمْ يَكُنْ مِنها إفْضالٌ ولا تَقْوى في هِبَةِ مالِ الغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ مالِكِهِ.ولِأنَّ الصَّداقَ تارَةً يَكُونُ عَيْنًا، وتارَةً يَكُونُ دَيْنًا، ولَيْسَ لِلْوَلِيِّ في هِبَةِ مالِها المُعَيَّنِ المُشارِ إلَيْهِ دَخْلٌ. فَهَذِهِ الأنْواعُ تَدُلُّ عَلى صِحَّةِ قَوْلِنا: إنَّ المُرادَ بِهِ: الزَّوْجُ، هَذا ما يَتَعَلَّقُ بِاللَّفْظِ. وأمّا ما يَتَعَلَّقُ بِقِياسِ الأُصُولِ فَبَيِّنٌ، غَيْرَ أنْ أقْوى ما يَرِدُ عَلَيْهِ أنّا إذا تَنازَعْنا مَعْنى اللَّفْظِ، وقَوْلُهُ: ﴿بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ﴾ يَبْعُدُ أنْ يُرادَ بِهِ الزَّوْجُ وقَدْ طَلَّقَ قَبْلَ المَسِّ، وإنَّما يَظْهَرُ ذَلِكَ في الوَلِيِّ الَّذِي بِيَدِهِ أنْ يَعْقِدَ النِّكاحَ، وقالَ تَعالى: ﴿ولا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٥] . ويُجابُ عَنْهُ بِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ﴾ يُبْعِدُ فَهْمَ الوَلِيِّ (p-٢١٠)مِنهُ، بِالإضافَةِ إلى عَقْدٍ كانَ، فَإنَّ إلى الوَلِيِّ أنْ يَعْقِدَ عَقْدًا آخَرَ غَيْرَ الأوَّلِ، وبِيَدِهِ أنْ يَعْقِدَ عَقْدًا غَيْرَ مَوْجُودٍ، ولَيْسَ بِيَدِهِ عُقْدَةٌ مَعْدُومَةٌ، وثُبُوتُ الوِلايَةِ لَهُ في أنْ يَعْقِدَ عَقْدًا آخَرَ، لا يَقْتَضِي جَوازَ عَقْدِهِ في نِكاحٍ مَضى، ولَيْسَ بِيَدِهِ ما قَدْ مَضى، ولا كانَ الَّذِي مَضى بِيَدِهِ عُقْدَتُهُ عِنْدَ وُجُودِهِ، وهَذا ظاهِرٌ كَما تَرى. نَعَمْ هو أوْلى بِالزَّوْجِ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى أرادَ أنْ يُمَيِّزَ المَرْأةَ عَنِ الزَّوْجِ بِوَصْفٍ يَخْتَصُّ بِهِ الزَّوْجُ، وهو أنَّ بِيَدِهِ عُقْدَةَ النِّكاحِ، فَكانَ ذَلِكَ كِنايَةً عَنِ الأزْواجِ عَلى وجْهٍ مُسْتَحْسِنٍ، وكانَ المَعْنى فِيهِ: أنَّ اللَّهَ تَعالى رَغَّبَ الزَّوْجَةَ في العَفْوِ، لِأنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَنَلْ مِنها شَيْئًا يَقُومُ مَقامَ ما أوْجَبَهُ عَلى نَفْسِهِ، فَذَكَرَ ما يَتَعَلَّقُ بِأحَدِ النِّصْفَيْنِ، ثُمَّ عادَ وذَكَرَ النِّصْفَ الآخَرَ فَقالَ: ﴿أوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ﴾ . رَغَّبَ الزَّوْجَ في أنْ يَثْبُتَ عَلى ما ساقَهُ إلَيْها وقَدِ ابْتَذَلَها بِالطَّلاقِ، وقَطَعَ طَمَعَها في وُصْلَتِهِ، ولِذَلِكَ قالَ: ﴿ولا يَحِلُّ لَكم أنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلا أنْ يَخافا ألا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٢٩] فَإنْ قِيلَ: فَقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وإنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ الآيَةُ. وذَلِكَ بَيانُ الحُكْمِ في الأزْواجِ، ثُمَّ قالَ: (p-٢١١)﴿فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إلا أنْ يَعْفُونَ أوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ﴾ . وقَدْ ذُكِرَ بِلَفْظِ المُغايَبَةِ عادِلًا عَنِ المُخاطَبَةِ، ولَوْ كانَ المُرادُ بِهِ الزَّوْجَ، لَقالَ: إلّا أنْ تَعْفُونَ أوْ يَعْفُوَ، لِيَكُونَ جارِيًا عَلى نَسَقِ التِّلاوَةِ، ومُوجِبُ سابِقِ الخِطابِ. ويُجابُ عَنْهُ: بِأنَّ اللَّهَ تَعالى أرادَ أنْ يُبَيِّنَ بِطَرِيقِ الكِنايَةِ صِفَةً تَتَمَيَّزُ بِها المَرْأةُ عَنِ الرَّجُلِ، فَعَدَلَ عَنِ المُخاطَبَةِ إلى قَوْلِهِ: ﴿أوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ﴾ . فَإنْ قِيلَ: لَمّا قالَ تَعالى: ﴿فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إلا أنْ يَعْفُونَ أوْ يَعْفُوَ﴾ اقْتَضى ذَلِكَ مِن حَيْثُ الظّاهِرُ أنْ يَكُونَ عَفْوُهُنَّ وعَفْوُ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ راجِعًا إلى النِّصْفِ المَذْكُورِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى بُعْدِ حَمْلِ المُطَلِّقِ عَلى الزَّوْجِ. ويُجابُ عَنْهُ: بِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ﴾ تَعَرَّضَ لِأحَدِ النِّصْفَيْنِ، فَلا يَبْعُدُ أنْ يَتَعَرَّضَ لِلنِّصْفِ الآخَرِ، لِيَكُونَ حُكْمُ العَفْوِ في جَمِيعِ الصَّداقِ مَذْكُورًا. فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: ﴿إلا أنْ يَعْفُونَ﴾ يَرْجِعُ إلى حَقٍّ وجَبَ لَها عَلَيْهِ، فَيَصِحُّ مِنها العَفْوُ عَنْ ذَلِكَ بِأنْ تَتْرُكَهُ عَلَيْهِ، فَأمّا إذا سَقَطَ النِّصْفُ الآخَرُ فَلَمْ يَجِبْ لَهُ عَلَيْها حَقٌّ حَتّى يَعْفُوَ عَنْهُ. نَعَمْ لَهُ أنْ يَهَبَ لَها شَيْئًا مِن مالِهِ، وذَلِكَ الَّذِي يَهَبُهُ لَيْسَ صَداقًا ولا مِن جُمْلَتِهِ، فَلا يَتَحَقَّقُ مَعْنى العَفْوِ فِيهِ، وإنَّما هو عَلى مَعْنى الهِبَةِ، والعَفْوُ إنَّما يَتَحَقَّقُ في شَيْءٍ مُسْتَحَقٍّ لَها عَلَيْهِ. فَيُجابُ عَنْهُ: بِأنَّهُ يَتَحَقَّقُ مَعْنى العَفْوِ، بِأنْ يَكُونَ قَدْ سَلَّمَ الصَّداقَ (p-٢١٢)إلَيْها، فَلَمّا طَلَّقَها رَجَعَ عَلَيْها بِنِصْفِهِ، فَإذا عَفا فَمَعْناهُ: تَرْكُ حَقِّهِ عَلَيْها، وإنْ كانَ بِطَرِيقِ الهِبَةِ. وقَدْ بَيَّنّا أنَّ الصَّداقَ تارَةً يَكُونُ عَيْنًا، وتارَةً يَكُونُ دَيْنًا، ولا يَتَحَقَّقُ مَعْنى العَفْوِ فِيهِ، إلّا أنْ يُجْعَلَ العَفْوُ كِنايَةً عَنِ الهِبَةِ بِضَرْبٍ مِنَ المَجازِ. وأقْوى كَلامٍ لِمَن يَحْمِلُ عَلى الوَلِيِّ أنَّ العَفْوَ مِنهُما يَجِبُ أنْ يَرْجِعَ إلى النِّصْفِ المَذْكُورِ، لا إلى النِّصْفِ الَّذِي لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، وقَدْ ذَكَرْنا الكَلامَ عَلَيْهِ. والَّذِي وُجِّهَ عَلَيْهِمْ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأنْ تَعْفُوا أقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾ وأنَّ ذَلِكَ إنَّما يَتَحَقَّقُ في الَّذِي يُسْقِطُ حَقَّ نَفْسِهِ لا حَقَّ غَيْرِهِ، فَهو أقْوى كَلامٍ عَلَيْهِمْ، في أنَّ المُرادَ بِهِ الزَّوْجُ. ولَكِنْ رُبَّما يَقُولُونَ: عَنى بِهِ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ والنِّساءِ، ولِأنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ أفْرَدَ ذِكْرَهُ، ولَوْ كانَ هو المَعْنِيَّ لَقالَ: ”وأنْ تَعْفُوا أنْتُمْ أقْرَبُ لِلتَّقْوى“ . ولَوْ عَنى بِهِ جَمِيعَ النِّساءِ لَقالَ: وأنْ تَعْفُونَ، فَلَمّا قالَ: ﴿وأنْ تَعْفُوا﴾ جَمَعَ بَيْنَهُما. وإذا جَمَعَ النِّساءَ مَعَ الرِّجالِ كانَ جَمْعُهم عَلى التَّذْكِيرِ. وهَذا غَلَطٌ عَظِيمٌ، فَإنَّهُ إذا ذَكَرَ الجَمِيعَ وغَلَّبَ لَفْظَ التَّذْكِيرِ لِأجْلِ إرادَةِ الوَلِيِّ، لَزِمَ مِنهُ أنْ يَكُونَ العَفْوُ أقْرَبَ لِلتَّقْوى في حَقِّ الوَلِيِّ، كَما كانَ أقْرَبَ لِلتَّقْوى في حَقِّ الزَّوْجِ والمَرْأةِ، وذَلِكَ مُحالٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب