الباحث القرآني
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أمَّا بعدُ، فهذا هو يوم الخميس التاسع من شهر محرم عام ستة عشر وأربع مئة وألف، وهو اللقاء الثاني من هذا العام، نبدؤه بتفسير قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾ [الزلزلة ١].
يقول الله عز وجل: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (٢) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ [الزلزلة ١ - ٤]، ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ هذا هو جواب الشرط.
﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾، والمرادُ بذلك ما ذكره الله تعالى في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج ١، ٢].
وقوله: ﴿زِلْزَالَهَا﴾ يعني الزلزالَ العظيمَ الذي لم يكن مِثْلُه قطُّ، ولهذا يقول الله عز وجل: ﴿تَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى﴾ يعني من شِدَّة ذُهُولهم وما أصابهم تجدهم كأنهم سُكارى، وما هم بسُكارى، بلْ هم صُحاةٌ، لكن لشدَّة الهول صار الإنسان كأنه سكران لا يدري كيف يتصرَّف ولا كيف يفعل.
﴿وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾، والمراد بهم أصحاب القبور؛ فإنه إذا ﴿نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ [الزمر ٦٨] يخرجون من قبورهم لربِّ العالمين عز وجل؛ كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين ٦].
﴿وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا﴾ ﴿قَالَ الْإِنْسَانُ﴾ المراد به الجنس؛ يعني أن الإنسان البَشَر يقول: ما لها؟! أيُّ شيءٍ لها، هذا الزلزال؟! لأنه يخرج وكأنه -كما قال الله تعالى- كأنه سكران، فيقول: ما الذي حَدَثَ لها؟! وما شأنها؟! لشدة الهول.
﴿يَوْمَئِذٍ﴾ أي: في ذلك اليوم إذا زُلْزِلت ﴿تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ أي: تُخبر عمَّا فعل الناسُ عليها من خيرٍ أو شرٍّ، وقد ثَبَتَ عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم «أنَّ المؤذِّن إذا أذَّن فإنه لا يسمع صوتَه شجرٌ ولا مَدَرٌ ولا حَجَرٌ ولا شيءٌ إلا شَهِدَ له يوم القيامة»[[أخرج ابن خزيمة (٣٨٩) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: إذا كنتَ في البوادي فارفعْ صوتَك بالنداء؛ فإني سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقول: «لا يسمعُ صوتَه شَجَرٌ ولا مَدَرٌ ولا حَجَرٌ ولا جِنٌّ ولا إنسٌ إلا شَهِد له».]]، فتشهد الأرضُ بما صُنِعَ عليها من خيرٍ أو شرٍّ، وهذه الشهادة من أجْل بيان عَدْل الله عز وجل وأنَّه سبحانه وتعالى لا يؤاخِذُ الناسَ إلا بما عَمِلوه، وإلا فإن الله تعالى بكلِّ شيءٍ محيطٌ، ويكفي أن يقول لعباده جلَّ وعلا: عَمِلتم كذا وعَمِلتم كذا، لكن من باب إقامة العدل وعدم إنكار المجرم؛ لأن المجرمين يُنكرون أن يكونوا مشركين؛ قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام ٢٣]؛ لأنهم إذا رَأَوْا أهلَ التوحيد قد خلصوا من العذاب ونجوا منه أنكروا الشِّرك لعلَّهم ينجون، ولكنهم يُخْتَم على أفواههم، وتُكَلِّم الأيدي، وتشهد الأرجُلُ، والجلودُ أيضًا، والألسُن، كلُّها تشهد على الإنسان بما عَمِل، وحينئذٍ لا يستطيع أن يَبْقى على إنكاره، بلْ يُقِرُّ ويعترف، إلا أنه لا ينفع الندم في ذلك الوقت.
وقوله: ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ [الزلزلة ٥] أي: بسبب أنَّ الله أوحى لها؛ يعني: أَذِنَ لها في أن تُحَدِّث أخبارَها، وهو سبحانه وتعالى على كلِّ شيءٍ قدير، إذا أَمَر شيئًا بأمْرٍ فإنه لا بُدَّ أن يقع؛ يخاطب اللهُ الجمادَ فيتكلَّم الجمادُ؛ كما قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت ١١]، «وقال الله تعالى للقلم: اكْتُبْ. قال: رَبِّ، وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قال: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[[أخرج الطبراني في مسند الشاميين (١٥٧٢) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «إنَّ أول ما خَلَق اللَّهُ القلم، فقال: اكتُبْ. قال: وما أكتبُ. قال: اكتبْ ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة». وأخرجه أبو داود (٤٧٠٠) والترمذي (٣٣١٩) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه بنحوه.]]، وقال الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يس ٦٥] فالله عز وجلَّ إذا وجَّه الكلامَ إلى شيءٍ ولو جمادًا فإنه يخاطبُ اللَّهَ ويتكلَّم، ولهذا قال: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾.
﴿يَوْمَئِذٍ﴾ يعني: يومَ إذْ تُزَلْزَلُ الأرضُ زِلزالَها ﴿يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا﴾ [الزلزلة ٦] أي: جماعاتٍ متفرِّقين، كلٌّ يتجه إلى مأواه، فأهلُ الجنة -جَعَلنا الله وإيَّاكم منهم- يتَّجهون إليها، وأهلُ النار -والعياذ بالله- يُساقون إليها؛ ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (٨٦) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾ [مريم ٨٥ - ٨٧]، فيَصْدر الناسُ جماعاتٍ وزُمَرًا على أصنافٍ متباينةٍ تختلف اختلافًا كبيرًا كما قال الله تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء ٢١].
﴿لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾ [الزلزلة ٦] يعني: يَصْدرون أشتاتًا فيُرَوْنَ أعمالَهم؛ يُريهم الله تعالى أعمالَهم إنْ خيرًا فخيرٌ وإنْ شَرًّا فشَرٌّ، وذلك بالحساب وبالكتاب، فيُعطَى الإنسانُ كتابَه إمَّا بيمينه وإمَّا بشِماله، ثم يُحاسَب على ضوء ما في هذا الكتاب، يحاسبه الله عز وجل؛ «أمَّا المؤمن فإن الله تعالى يخلو به وحدَهُ ويُقَرِّره بذُنُوبه ويقول: فعلْتَ كذا وفعلْتَ كذا وفعلْتَ كذا. حتى يُقِرَّ ويعترف، فإذا رأى أنه هلك قال الله عز وجل: إني قد سترتُها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم. وأمَّا الكافر -والعياذ بالله- فإنه لا يُعامَل هذه المعاملة، بلْ يُنادى على رؤوس الأشهاد:» ﴿هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود ١٨][[أخرج البخاري (٤٦٨٥) -واللفظ له- ومسلم (٢٧٦٨ / ٥٢) عن صفوان بن محرز قال: بينا ابن عمر يطوف إذْ عَرَض رجلٌ فقال: يا أبا عبد الرحمن - أو قال: يا ابن عمر - سمعتَ النبيَّ ﷺ في النجوى؟ فقال سمعتُ النبيَّ ﷺ يقول: «يُدنَى المؤمنُ من ربِّه -وقال هشام: يدنو المؤمن- حتى يَضَع عليه كَنَفه فيقرِّره بذنوبه: تعرفُ ذَنْب كذا؟ يقول: أعرفُ. يقول: ربِّ أعرفُ. مرَّتين. فيقول: سترتُها في الدنيا، وأغفرها لك اليوم. ثم تُطوى صحيفة حسناته، وأمَّا الآخرون -أو الكفار- فيُنادى على رؤوس الأشهاد: ﴿هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود: ١٨].]].
وقوله: ﴿لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾ هذا مضافٌ، والمضاف يقتضي العموم، وظاهره أنهم يُرَون الأعمالَ الصغيرةَ والكبيرةَ، وهو كذلك، إلا ما غَفَرَه الله مِن قَبْلُ بحسناتٍ أو دُعاءٍ أو ما أشبهَ ذلك فهذا يُمحى؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود ١١٤]، فيُرَى الإنسانُ عملَه، يُرَى عملَه القليلَ والكثيرَ حتى يتبيَّن له الأمرُ جَلِيًّا ويُعطى كتابَه ويُقال: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء ١٤]، ولهذا يجب على الإنسان ألَّا يُقْدِم على شيءٍ لا يُرضي اللَّهَ عز وجل؛ لأنه يعلم أنه مكتوبٌ عليه وأنه سوف يُحاسَب عليه.
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة ٧، ٨] (مَن) شرطيَّة تفيد العموم؛ يعني: أيُّ إنسانٍ يعمل مثقالَ ذرَّةٍ فإنه سيراه سواءٌ من الخير أو من الشر.
و﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ يعني وَزْن ذَرَّة، والمراد بالذرَّة صِغار النَّمل كما هو معروف، وليس المرادُ بالذرَّةِ الذرَّةَ المتعارفَ عليها اليوم كما ادَّعاه بعضُهم؛ لأن هذه الذرَّة المتعارف عليها اليوم ليستْ معروفةً في ذاك الوقت، والله عز وجل لا يخاطب الناسَ إلا بما يفهمون، وإنما ذَكَر الذرَّةَ لأنها مَضْرِب الْمَثَل في القِلَّة؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾ [النساء ٤٠]، وإنَّ من المعلوم أن مَن عَمِل ولو أدنى مِن الذرَّة فإنه سوف يجده، لكن لَمَّا كانت الذرَّة مَضْرِب الْمَثَل في القِلَّة قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾.
وقوله تبارك وتعالى: ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ يفيد أن الذي يُوزَن هو الأعمال، وهذه المسألة اختلفَ فيها أهلُ العلم؛ فمِن العلماء مَن يقول: إن الذي يُوزَن هو العمل، ومنهم مَن يقول: إن الذي يُوزَن صحائف الأعمال، ومنهم مَن يقول: إن الذي يُوزَن هو العامل نفسه، ولكلٍّ دليل:
أمَّا مَن قال: إن الذي يُوزَن هو العمل فاستدلَّ بهذه الآية: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾؛ لأن تقدير الآية: فمَن يعمل عملًا مثقالَ ذرَّة. واستدلُّوا أيضًا بقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٧٥٦٣)، ومسلم (٢٦٩٤ / ٣١)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]]، وهذا القول كما ترى له دليلٌ من القرآن ومن السُّنة.
لكن يُشْكِل على هذا أنَّ العمل ليس جسمًا يمكن أن يوضَع في الميزان، بل العمل عَمَلٌ، انتهى وانقضى، ولكن يُجاب عن هذا بأنْ يُقال: على المرء أن يُصَدِّق بما أخبر الله به ورسولُه من أمور الغيب وإنْ كان عقلُه قد يَحار فيه ويتعجَّب ويقول: كيف يكون هذا؟! فعليه بالتصديق؛ لأن قدرة الله تعالى فوق ما يتصوَّر، هذا أوَّل جواب عن هذا الإيراد، الإيراد عرفتموه الآن؟ هو: كيف يُوزَن العملُ وهو معنًى وحركة انتهت؟
فيقال: الواجب على المسلم أن يُسَلِّم ويستسلم ولا يقول: كيف؟ لأن أمور الغيب فوق ما يتصوَّر، هذه واحدة.
ثانيًا: أن الله تعالى يجعل هذه الأعمالَ أجسامًا توضَع في الميزان وتَثْقُل وتَخِفُّ، والله تعالى قادرٌ على أن يجعل الأمور المعنوية أجسامًا؛ كما صحَّ عن النبي ﷺ في «أن الموت يُؤتَى به على صورة كَبْشٍ، ويُوقَف بين الجنة والنار، ويُقال: يا أهل الجنَّة. فيشْرَئِبُّون ويطَّلعون لماذا نُودُوا، ويُقال: يا أهل النار. فيشْرَئِبُّون ويطَّلعون لماذا نُودُوا، فيُقال لهم: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت» -مع أنه في صورة كَبْشٍ، والموتُ معنًى ليس جسمًا، ولكن الله تعالى يجعله جسمًا يوم القيامة فيكون هذا الموت- «فيُذْبح أمامهم، ويُقال: يا أهل الجنة خلودٌ ولا مَوْت، ويا أهل النار خلودٌ ولا مَوْت»[[أخرج البخاري (٤٧٣٠) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «يُؤتَى بالموت كهيئة كبشٍ أملح، فينادي منادٍ: يا أهل الجنة. فيشرئبُّون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت. وكلهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار. فيشرئبُّون وينظرون، فيقول: وهل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت. وكلهم قد رآه، فيُذبح، ثم يقول: يا أهل الجنة خلودٌ فلا موت، ويا أهل النار خلودٌ فلا موت...» الحديث.]]، وبهذا يزول الإشكالُ الواردُ على هذا القول، ما هو القول؟ أن الذي يُوزَن هو العمل.
أمَّا مَن قال: إن الذي يُوزَن هو صحائف الأعمال، فاستدلُّوا بحديث «صاحب البطاقة الذي يُؤتى يومَ القيامة به ويُقال: انظرْ إلى عَمِلك. فتُمَدُّ له السِّجِلَّاتُ مكتوبٌ فيها العملُ السَّيِّئُ، سِجِلَّاتٌ عظيمةٌ، فإذا رأى أنه قد هلك أُتِي ببطاقة صغيرة فيها: لا إله إلا الله. فيقول: يا ربِّ، ما هذه البطاقة مع هذه السجلَّات؟! فيُقال له: إنك لا تُظْلم شيئًا، ثم تُوزَن البطاقة في كِفَّةٍ والسجلَّاتُ في كِفَّةٍ فترجحُ بِهِنَّ البطاقة، وهي: لا إله إلا الله»[[أخرج الترمذي (٢٦٣٩) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله ﷺ: «إنَّ الله سيُخلِّص رجلًا من أُمَّتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعةً وتسعين سِجِلًّا كلُّ سِجِلٍّ مثل مدِّ البصر، ثم يقول: أتُنْكر من هذا شيئًا؟ أظَلَمك كَتَبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب. فيقول: أفَلك عُذر؟ فيقول: لا يا رب. فيقول: بلى، إنَّ لك عندنا حسنة، فإنَّه لا ظُلم عليك اليوم. فتخرج بطاقةٌ فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله. فيقول: احضر وَزْنك. فيقول: يا ربِّ ما هذه البطاقة مع هذه السجلات! فقال: إنك لا تُظلم. قال: فتوضع السجلات في كفةٍ والبطاقة في كفةٍ، فطاشت السجلات وثقُلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء».]]. قالوا: فهذا دليلٌ على أن الذي يُوزَن هو صحائف الأعمال.
وأمَّا الذين قالوا: إن الذي يُوزَن هو العاملُ نفسُه، فاستدلُّوا بحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «أنَّه كان ذاتَ يومٍ مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهَبَّتْ ريحٌ شديدةٌ، فقام عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه فجعلت الريحُ تُكَفِّئُه لأنه نحيفُ القدمين والساقين، فجعل الناسُ يضحكون، فقال النبيُّ ﷺ: «مِمَّ تَضْحَكُونَ؟! -أو: مِمَّ تَعْجَبُونَ؟!- وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ سَاقَيْهِ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ أُحُدٍ»[[أخرج أحمد (٣٩٩٠) عن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّه كان يجتني سواكًا من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفَؤُه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله ﷺ: «مِمَّ تضحكون؟» قالوا: يا نبيَّ الله، من دِقَّة ساقَيه. فقال: «والذي نفسي بيده، لهما أثقلُ في الميزان من أُحُد».]]. وهذا يدلُّ على أن الذي يُوزَن هو العامل.
فيُقال: نأخذ بالقول الأول أن الذي يُوزَن العَمَل، ولكنْ ربما يكون بعضُ الناس تُوزَن صحائف أعماله وبعضُ الناسِ يُوزَن هو بنفسه.
فإن قال قائل: على هذا القول؛ أنَّ الذي يُوزَن هو العامل، هلْ ينبني هذا على أجسام الناس في الدنيا وأنَّ صاحب الجسم الكبير العظيم يَثْقل ميزانُه يوم القيامة؟
فالجواب: لا، لا ينبني على أجسام الدنيا؛ يُؤتَى بالرجُلِ السمينِ الغليظِ الكبيرِ الواسعِ الجسمِ يومَ القيامة لا يَزِنُ عند الله جناحَ بعوضةٍ، وهذا عبد الله بن مسعودٍ؛ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ سَاقَيْهِ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ أُحُدٍ»، فالعبرة بثِقَل الجسم أو عدم ثِقَله يوم القيامة بما كان معه من أعمالٍ صالحة؛ يقول الله عز وجل: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.
* وفي هذه السورة كلها: التحذيرُ والتخويفُ من زلزلة الأرض.
* وفيها: الحثُّ على الأعمال الصالحة.
* وفيها: أن العمل لا يَضِيع مهما قلَّ، حتى لو كان مثقالَ ذرَّةٍ أو أقلَّ فإنه لا بُدَّ أن يراه الإنسان ويطَّلع عليه يوم القيامة.
نسأل الله تعالى أن يَختِم لنا ولكم بالخير والسعادة والصلاح والفلاح، وأن يجعلنا مِمَّن يُحشَرون إلى الرحمن وفدًا، إنَّه على كلِّ شيءٍ قدير.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["إِذَا زُلۡزِلَتِ ٱلۡأَرۡضُ زِلۡزَالَهَا","وَأَخۡرَجَتِ ٱلۡأَرۡضُ أَثۡقَالَهَا","وَقَالَ ٱلۡإِنسَـٰنُ مَا لَهَا","یَوۡمَىِٕذࣲ تُحَدِّثُ أَخۡبَارَهَا","بِأَنَّ رَبَّكَ أَوۡحَىٰ لَهَا","یَوۡمَىِٕذࣲ یَصۡدُرُ ٱلنَّاسُ أَشۡتَاتࣰا لِّیُرَوۡا۟ أَعۡمَـٰلَهُمۡ","فَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَیۡرࣰا یَرَهُۥ","وَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةࣲ شَرࣰّا یَرَهُۥ"],"ayah":"وَقَالَ ٱلۡإِنسَـٰنُ مَا لَهَا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق