الباحث القرآني

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وأُصَلِّي وأُسَلِّم على رسول الله وعلى آله وأصحابه، (...) بعدها نتكلَّم يسيرًا على سورة البيِّنة لأننا انتهينا إليها. فيقول الله عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ [البينة ١]، والكلام على البسملة قد تقدَّم كثيرًا لنا في هذا المجلس وغيره، وبيَّنَّا أن البسملة آيةٌ من كتاب الله تكلَّم الله بها كما تكلَّم بالقرآن جلَّ وعَلَا، ولكنها آيةٌ مستقِلَّةٌ لا تُعَدُّ من آيات السورة التي بعدها ولا من آيات السورة التي قبلها، بل هي مستقِلَّة تُبْتَدأُ بها السُّوَر من الفاتحة إلى (قل أعوذ برب الناس) ما عدا سورة (براءة)؛ فإنها لم تَثْبت عن النبي ﷺ أنه افتتح سورةَ (براءة) بالبسملة، ولهذا أغفَلَها الصحابةُ رضي الله عنهم، لكن احتياطًا وخوفًا من أن تكون سورةً مستقِلَّة جعلوا بينها وبين سورة الأنفال فاصلًا. يقول الله عز وجل: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ يعني: ما كان الكفار ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ﴾ أي: تاركين لِمَا هُم عليه من الكفر ﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾. وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى؛ سُمُّوا بذلك لأنَّ صُحُفهم بَقِيتْ إلى أن بُعِثَ النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع ما فيها من التبديل والتحريف والتغيير، ولكن هُم أهلُ الكتاب، إذا سمعتم في القرآن (أهل الكتاب) فالمراد بهم مَن؟ اليهود والنصارى؛ اليهودُ لهم التوراة، والنصارى لهم الإنجيل، أمَّا المشركون فهُم عَبَدة الأوثان من كلِّ جنسٍ؛ من بني إسرائيل ومن غيرهم. يقول: لم يكن هؤلاء ﴿مُنْفَكِّينَ﴾ أي: تاركين لِمَا هُم عليه من الشرك والكفر ومُنْفَكِّين عنه ﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾. فما هي البيِّنة؟ البيِّنة ما يَبِينُ به الحقُّ في كلِّ شيء، كلُّ شيءٍ يَبِين به الحقُّ فإنه يُسَمَّى بيِّنة، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ»[[أخرجه البيهقي (١٦٤٤٥) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.]]، فكلُّ ما بان به الحقُّ فهو بيِّنة، ويكون في كلِّ شيءٍ بحسبه، فما هي البيِّنة التي ذكرها الله هنا؟ ﴿الْبَيِّنَةُ﴾ قال: ﴿رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (٢) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ [البينة ٢، ٣]، وهذا الرسول هو النبيُّ ﷺ؛ محمَّدٌ رسول الله؛ محمد بن عبد الله الهاشمي القُرَشي صلوات الله وسلامه عليه، وجاء بصيغة النكرة ﴿رَسُولٌ﴾ تعظيمًا له؛ لأنه عليه الصلاة والسلام جديرٌ بأن يُعَظَّم التعظيمَ اللائقَ به من غير نقْصٍ ولا غُلُوٍّ. ﴿رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ﴾ يعني أنَّ الله أَرْسله إلى العالمين بشيرًا ونذيرًا؛ قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا﴾ [النساء ٧٩]، وقال: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان ١]، فهو محمَّدٌ عليه الصلاة والسلام، مُرسَلٌ من عند الله بواسطة جبريل عليه الصلاة والسلام؛ لأن جبريل هو رسولُ ربِّ العالمين إلى رُسُله، مُوَكَّلٌ بالوحي يَنْزل به على مَن شاء الله من عباده. إذَنْ مَن المراد بالرسول؟ محمد. طيب، مَن أرسله؟ الله؛ لقوله: ﴿رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً﴾. مَنْ هو الواسطة بين الرسول وبين الله؟ جبريل؛ لأن جبريل مُوَكَّل بالوحي يَنْزل به على مَن يشاء من عباد الله. ﴿يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً﴾ يعني: يقرأ لنفسه وللناس. ﴿صُحُفًا﴾ جمع صحيفة، وهي الورقة أو اللوح أو ما أشبهَ ذلك مِمَّا يُكتب به. ﴿مُطَهَّرَةً﴾ أي: مُنَقَّاة من الشِّرك ومن رذائل الأخلاق ومن كلِّ ما يَسوء؛ لأنها نزيهةٌ مقدَّسةٌ. ﴿فِيهَا﴾ أي: في هذه الصُّحُف ﴿كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ ﴿كُتُبٌ﴾ أي: مكتوباتٌ قيِّمة، فـ﴿كُتُبٌ﴾ جمع كتاب بمعنى مكتوب، والمعنى أنَّ في هذه الصُّحُف مكتوبات قيِّمة كَتَبَها اللَّهُ عز وجل، ومن المعلوم أنَّ الإنسان إذا تَصَفَّح القرآنَ وجده كذلك؛ أي: وجد أنه يتضمَّن كُتُبًا -أي: مكتوباتٍ- قيِّمة؛ انظُر إلى ما جاء به القرآنُ من توحيد الله عز وجل والثَّناء عليه وحَمْده وتسبيحه تجده مملوءًا بذلك، انظُر إلى ما في القرآن مِن وَصْف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ووَصْف أصحابه المهاجرين والأنصار ووَصْف التابعين لهم بإحسان، انظُر إلى ما جاء به القرآن من الأمر بالصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة تجد أنَّ كلَّ ما جاء به القرآنُ فهو قَيِّمٌ؛ أي: قَيِّمٌ بنفسه، وكذلك هو مُقِيمٌ لغيره؛ ﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾. إذَنْ أخبرَ اللَّهُ في هذه الآية أنه لا يمكن أن يَنْفَكَّ هؤلاء الكفار من أهل الكتاب والمشركين حتى تأتيهم البيِّنة، فلمَّا جاءتهم البيِّنة هل انفكُّوا عن دينهم؛ يعني عن كُفرهم وشِرْكهم؟ استمع إلى الجواب؛ قال: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة ٤] يعني لَمَّا جاءت البيِّنة هل آمنوا؟ لا، ولكنهم اختلفوا، منهم مَن آمَنَ ومنهم مَن كَفَر؛ فمِن النصارى مَن آمَنَ مِثْل النجاشي ملك الحبشة، ومِن اليهود مَن آمَنَ أيضًا مِثْل عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فمنهم مَن آمَنَ ومنهم مَن كَفَر، فمَن عَلِم الله منه أنه يريد الخيرَ ويريد الدِّينَ لله آمَنَ، وُفِّقَ للإيمان، ومَن لم يكنْ كذلك وُفِّقَ للكفر. كذلك أيضًا من المشركين مَن آمَنَ، وما أكثرَ المشركين من قُريش الذين آمنوا! فصار الناسُ قبل بعْثة الرسول عليه الصلاة والسلام لم يزالوا على ما هم عليه من الكفر حتى جاءتهم البيِّنة، ثم لَمَّا جاءتهم البيِّنة أيش اللي حَصَل؟ تفرَّقوا واختلفوا كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران ١٠٥]. وسيأتي إن شاء الله بقيَّة الكلام على هذه السورة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب