الباحث القرآني

ثم قال: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩) عَبْدًا إِذَا صَلَّى﴾ [العلق ٩، ١٠] يعني: أخبِرْني عن حال هذا الرجُل وتعجَّبْ من حال هذا الرجُل الذي ينهى عبدًا إذا صلَّى. فعندنا الآن ناهٍ وعندنا مَنْهيٌّ، فمن هو الناهي؟ الناهي هو طاغيةُ قريشٍ أبو جهل، وكان يُسمَّى في قريشٍ أبا الحَكَم لأنهم يتحاكمون إليه ويرجعون إليه، فاغترَّ بنفسه-والعياذ بالله- وشرق بالإسلام ومات على الكفر كما هو معروف، هذا الرجل سَمَّاه النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبا جهل ضد تسميتهم إيَّاه أبا الحكم. وأمَّا المنهيُّ فهو محمدٌ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو العبد؛ ﴿عَبْدًا إِذَا صَلَّى﴾. أبو جهلٍ قيل له: إنَّ محمدًا يصلِّي عند الكعبة أمام الناس، يَفْتن الناس ويصدُّهم عن أصنامهم وآلهتهم. فمرَّ به ذات يومٍ وهو ساجدٌ، فنهى النبيَّ عليه الصلاة والسلام وقال: لقد نهيتُك، فلماذا تفعل؟ فانتهره النبيُّ عليه الصلاة والسلام فرجع، ثم قيل لأبي جهل: إنَّه -أي: محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مازال يصلي. فقال: واللهِ لئن رأيتُه لأطأنَّ عُنُقَه بقَدَمي ولأُرغمنَّ وجهه في التراب. فلمَّا رآه ذات يومٍ ساجدًا تحت الكعبة وأقبلَ عليه يريد أن يبرَّ بيمينه وقَسَمه، لَمَّا أقبلَ عليه وجد بينه وبينه خندقًا من النار وأهوالًا عظيمة، فنكص على عَقِبيه وعجز أن يَصِل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم[[أخرج مسلم (٢٧٩٧ / ٣٨) من حديث أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يُعفِّر محمدٌ وجهَه بين أظهركم؟ قال فقيل: نعم. فقال: واللات والعزى لئن رأيتُه يفعل ذلك لأطأنَّ على رقبته أو لأعفِّرن وجهَه في التراب. قال: فأتى رسولَ الله ﷺ وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته، قال: فما فَجِئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إنَّ بيني وبينه لَخندقًا من نارٍ وهولًا وأجنحةً. فقال رسول الله ﷺ: «لو دنا مني لاختطفتْه الملائكة عضوًا عضوًا».]]، هذا العبد الذي ينهى عبدًا إذا صلَّى يُتعجَّب من حاله، كيف يفعل هذا؟! ولهذا جاء في آخِر الآيات: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ [العلق ١٤] وأنَّه سيُجازيه. ثم قال: ﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى﴾ [العلق ١١، ١٢] ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ [العلق ١٤]. ﴿أَرَأَيْتَ﴾ يعني: أخبِرْني أيُّها المخاطَب. ﴿إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى﴾ مَن يعني به: الناهي أبا جهل، أو الساجدَ محمدًا ﷺ؟ يعني به الثاني؛ يقول: أرأيتَ إن كان هذا الساجدُ على الهدى، فكيف تنهاه عنه؟! ﴿أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى﴾ قال بعض المفسرين ﴿أَوْ﴾ هنا بمعنى الواو؛ يعني: وأَمَر بالتقوى. ولكن الصحيح أنها على بابها للتنويع؛ يعني: أرأيتَ إن كان على الهدى فيما فَعَل من السجود والصلاة أو أَمَر غيره بالتقوى؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يأمر بالتقوى بلا شك، فهو صالحٌ بنفسه مصلحٌ لغيره. ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ يعني: يرى المنهيَّ وهو الساجد؛ محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم الآمرَ بالتقوى، ويرى هذا العبدَ الطاغيةَ الذي ينهى عبدًا إذا صلَّى. ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ يرى سبحانه وتعالى عِلْمًا ورؤيةً؛ فهو سبحانه وتعالى يرى كلَّ شيءٍ مهما خَفِيَ ودقَّ، ويعلم كلَّ شيءٍ مهما بَعُد ومهما كثُر أو قلَّ، فيعلم الآمرَ والناهيَ، ويعلم المصلِّيَ والساجدَ، ويعلم مَن طغى ومَن خضع لله عز وجل، وسيجازي كلَّ إنسانٍ بعمله. والمقصود من هذا تهديدُ هذا الذي ينهى عبدًا إذا صلَّى، وبيانُ أنَّ الله تعالى يعلم بحاله وحال مَن ينهاه، وسيجازي كلًّا منهما بما يستحقُّ. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإيَّاكم من الساجدين لله، الآمِرين بتقوى الله على هُدًى من الله ونورٍ، إنَّه على كلِّ شيءٍ قدير. * * * (...) نفتتحه بالكلام على ما بَقِيَ من تفسير سورة العَلَق. قال الله تبارك وتعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ [العلق ٩ - ١٤] كلُّ هذا للتهديد، تهديدِ هذا الرجُل الذي كان ينهى رسولَ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الصلاة، حتى إنَّه توعَّده وقال لأطأنَّ عُنُقَه إذا سجد، ولكنْ أَبَى الله تعالى ذلك؛ فقد همَّ به، ولكنَّه نكص على عَقِبيه ورأى أهوالًا عظيمةً حالت بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم[[أخرج مسلم (٢٧٩٧ / ٣٨) من حديث أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يُعفِّر محمدٌ وجهَه بين أظهركم؟ قال فقيل: نعم. فقال: واللات والعزى لئن رأيتُه يفعل ذلك لأطأنَّ على رقبته أو لأعفِّرن وجهَه في التراب. قال: فأتى رسولَ الله ﷺ وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته، قال: فما فَجِئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إنَّ بيني وبينه لَخندقًا من نارٍ وهولًا وأجنحةً. فقال رسول الله ﷺ: «لو دنا مني لاختطفتْه الملائكة عضوًا عضوًا».]]. وقوله: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ يحتمل أن تكون من الرؤية بالعَيْنِ، ويحتمل أن تكون من رؤية العِلْم، وكلاهما صحيح؛ فالربُّ عز وجل يرى بعِلْمه ويرى ببصره جل وعلا، لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء. والمرادُ بهذه الجملةِ التهديدُ؛ يعني: ألَمْ يعلمْ هذا الرجُل أنَّ الله تعالى يراه ويعلمه، وهو سبحانه وتعالى محيطٌ بعمله فيُجازيه عليه إمَّا في الدنيا وإمَّا في الدنيا والآخرة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب