الباحث القرآني

﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد: ٤] اللام هنا واقعةٌ في جواب القَسَم لتزيد الجملة تأكيدًا، و(قد) تزيد الجملة تأكيدًا أيضًا فتكون جملة ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾ مؤكَّدةً بثلاثة مؤكِّدات وهي: القسم، والثاني: اللام، والثالث: (قد). ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾، ﴿الْإِنْسَانَ﴾ اسم جنسٍ يشمل كلَّ واحدٍ من بني آدم. ﴿فِي كَبَدٍ﴾ فيها معنيان: المعنى الأول: في استقامةٍ؛ يعني أنه خُلِق على أكمل وجهٍ في الخِلْقة؛ مستقيمًا، يمشي على قدميه، ويرفع رأسَه، وبدنُه معتدل، والبهائم بالعكس؛ الرأس على حذاء الدُّبُر، أليس كذلك؟! أمَّا بنو آدم لا؛ الرأس مرتفعٌ أعلى البدن، فهو كقوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين ٤]. وقيل: المراد بالكَبَد مُكابدة الأشياء ومعاناتُها، وأنَّ الإنسان يعاني المشقَّة في أمور الدنيا؛ في طلب الرزق، في إصلاح الحرث، في غير ذلك، ويعاني أيضًا معاناةً أشدَّ مع نفسه ومجاهدتها على طاعة الله واجتناب معاصي الله، وهذا هو الجهاد الذي أشقُّ مِن معاناة طلب الرزق، ولا سيَّما إذا ابتُلي الإنسانُ ببيئةٍ منحرفةٍ وصار بينهم غريبًا فإنه سيجد المشقَّة في معاناة نفسِه وفي معاناة الناس أيضًا. فإن قال قائل: أفلا يمكن أن تكون الآيةُ شاملةً للمعنيين؟ فالجواب: بلى، وهكذا ينبغي إذا وجدتَ في الكتاب العزيز آيةً تحتمل معنيين وليس بينهما مناقضةٌ، فاحملها على المعنيين؛ لأن القرآن أشمل وأوسع، فإنْ كان بينهما مناقضةٌ فانظر الراجح؛ فمثلًا قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة ٢٢٨] ﴿قُرُوءٍ﴾ جمع قَرء، بفتح القاف، فما هو القَرء؟ قيل: هو الحيض. وقيل: هو الطُّهر. هنا لا يمكن أن تحمل الآية على المعنيين جميعًا، لماذا؟ للتناقض. لكن اطلب المرجِّح لأحد القولين وخُذ به. فهُنا نقول: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ يصح أن تكون الآية شاملةً للمعنيين؛ أي: في حُسنِ قامةٍ واستقامةٍ، و﴿فِي كَبَدٍ﴾ في معاناةٍ لمشاقِّ الأمور. ولنقتصر على هذا القَدْر من آيات الله البيِّنات لنتفرغ للأسئلة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعًا ممن يتلون كتابه حقَّ تلاوته، وأن يَهَب لنا منه رحمةً إنه هو الوهاب. * * * (...) والذي يتمُّ فيه اللقاء مع الإخوة في كل أسبوع، وهذا هو اللقاء الموفي للسبعين لقاءً، وهو الذي يتمُّ في شهر ربيع الأول عام خمسة عشر وأربع مئة وألف، ومن عادتنا أن نتكلم أولًا عن تفسير آياتٍ كنَّا معها من سورة النبأ حتى انتهينا إلى أول سورة البلد في قوله تبارك وتعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾ [البلد ٤ - ٧]، وبيَّنَّا أن قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ له معنيان عند أهل العلم: المعنى الأول: الكَبَد يعني التمام والرِّفعة في الخِلْقة والعقل وغير ذلك. والمعنى الثاني: في مُكابدةٍ لمشاقِّ الأعمال الدنيوية والأُخروية. والقاعدة في تفسير كتاب الله عز وجل يا إخواننا، القاعدة أنَّ الآية إذا كانت تحتمل معنيين ولا تناقُض بينهما فإنها تُحمَل على المعنيين جميعًا؛ لأن ذلك أوسع في التفسير والعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب