الباحث القرآني

وقد سبق الكلام على قوله تعالى ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ [الأعلى ١٤، ١٥]، وبيَّنَّا أنَّ المراد بقوله: ﴿تَزَكَّى﴾ أي: في نفسه؛ أي: زكَّاها وأخرجها من رِجْس الشرك إلى زكاة التوحيد. ويأتي إن شاء الله بقيَّة الكلام على السورة من أجْل أن نُفسح المجال للإخوة. * * * أمَّا بعدُ فهذا هو اللقاء الثالث والخمسون من اللقاء المسمَّى بلقاء الباب المفتوح، وهو اللقاء الرابع باعتبار شهر شوال عام أربعة عشر وأربع مئةٍ وألف، ونتكلم يسيرًا على ما تبقى من سورة الأعلى، وهو قوله تبارك وتعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ [الأعلى ١٤، ١٥]. ﴿أَفْلَحَ﴾ مأخوذٌ من الفَلَاح، والفَلَاح كلمةٌ جامعةٌ، وهو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب، هذا هو معنى الفَلَاح، فهي كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ خيرٍ، دافعةٌ لكلِّ شر. وقوله: ﴿مَنْ تَزَكَّى﴾ مأخوذ من التزكية وهي التطهير، ومنه سُمِّيت الزكاة زكاةً لأنها تُطَهِّر الإنسانَ من أخلاق الرذيلة، أخلاق البخل؛ كما قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ﴾ [التوبة ١٠٣]، إذَنْ ﴿تَزَكَّى﴾ يعني تطهَّر. ومن أيِّ شيءٍ تزكَّى؟ يتزكَّى أولًا من الشرك بالنسبة لمعاملة الله، فيعبد اللَّهَ مخلصًا له الدين لا يُرائي ولا يسمِّع، ولا يطلب جاهًا ولا رئاسةً فيما يتعبَّد به لله عز وجل، وإنما يريد بهذا وجهَ الله والدارَ الآخرة. تزكَّى في اتِّباع الرسول عليه الصلاة والسلام؛ بحيث لا يبتدع في شريعته لا بقليل ولا كثير، لا في الاعتقاد، ولا في الأقوال، ولا في الأفعال. وهذا -أعني التزكِّي بالنسبة للرسول عليه الصلاة والسلام، وهو اتِّباعٌ من غير ابتداع- لا ينطبق تمامًا إلا على الطريقة السلفية؛ طريقة أهل السُّنة والجماعة الذين يؤمنون بكلِّ ما وَصَف الله به نفسَه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، على الطريقة السلفية الذين لا يبتدعون في العبادات القولية ولا في العبادات الفعلية شيئًا في دين الله، تجدهم يتَّبعون ما جاء به الشرع، خلافًا لِمَا يصنعه بعض المبتدِعة في الأذكار المبتدَعة؛ إمَّا في نوعها، وإمَّا في كيفيَّتها وصِفَتها، وإمَّا في أدائها؛ كما يفعله بعض أصحاب الطُّرُق من الصوفية وغيرهم. كذلك يتزكَّى بالنسبة لمعاملة الخلْق بحيث يطهِّر قلبَه من الغِلِّ والحقد على إخوانه المسلمين، فتجده دائمًا طاهرَ القلب، يحبُّ لإخوانه ما يحبُّ لنفسه، لا يرضى لأحدٍ أن يمسَّه سوءٌ، بل يودُّ أنَّ جميع الناس سالمون من كلِّ شر، موفَّقون لكلِّ خير. فصارت التزكية لها ثلاثة متعلقات: الأول في حق الله، والثاني في حق الرسول، والثالث في حق عامَّة الناس. في حق الله: يتزكَّى من الشرك، فيعبد الله تعالى مخلصًا له الدين. في حق الرسول: يتزكَّى من الابتداع، فيعبد الله على مقتضى شريعة النبي ﷺ في العقيدة والقول والعمل. في معاملة الناس: يتزكَّى من الغِلِّ والحقدِ والعداوةِ والبغضاءِ وكلِّ ما يجلب ذلك، كل ما يجلب العداوةَ والبغضاءَ بين المسلمين يتجنَّبه، ويفعل كلَّ ما فيه المودَّة والمحبَّة، ومن ذلك إفشاء السلام الذي قال فيه الرسول ﷺ: «وَاللَّهِ لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ»[[أخرج مسلم (٥٤ / ٩٣)، وأبو داود (٥١٩٣) واللفظ له، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنَّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أفلا أدلُّكم على أمرٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم».]]. فالسلام من أقوى الأسباب التي تجلب المحبَّة والمودَّة بين المسلمين، وهذا شيءٌ مشاهَدٌ؛ لو مرَّ بك رجلٌ ولم يسلِّم عليك صار في نفسك شيء، وإذا لم تسلِّم عليه أنت صار في نفسه شيء، لكن لو سلَّمتَ عليه أو سلَّمَ عليك صار هذا كالرِّباط بينكما يوجب المودَّة والمحبَّة، وقد قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام في السلام: «وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٢)، ومسلم (٣٩ / ٦٣)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.]]. وأكثر الناس اليوم إذا سلَّم يسلِّم على مَن يعرف، وأمَّا مَن لا يعرفه فلا يسلِّم عليه، وهذا غلط؛ لأنَّك إذا سلَّمتَ على مَن تعرف لم يكن السلام خالصًا لله، سلِّم على مَن عرفتَ ومَن لم تعرف من المسلمين حتى تنال بذلك محبَّة المسلمين بعضهم من بعضٍ وتمامَ الإيمان، والنهاية دخول الجنة، جعلنا الله وإيَّاكم من أهلها.وقوله: ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ [الأعلى ١٥] يعني: ذكر اسمَ الله تعالى بالتعبُّد له فصلَّى، ويدخل في ذِكْر اسم الله الوضوءُ مثلًا، فالوضوء من ذِكْر اسم الله؛ أولًا: لأنَّ الإنسان لا يتوضأ إلا امتثالًا لأمر الله، وثانيًا: أنَّه إذا ابتدأ وضوءَه قال: باسم الله، وإذا انتهى قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهمَّ اجعلني من التوَّابين واجعلني من المتطهِّرين. ومِن ذِكْر الله عز وجل خطبة الجمعة؛ فإنَّ خطبة الجمعة مِن ذِكْر الله لقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ [الجمعة ٩]، وعلى هذا فقوله: ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ﴾ يعني الخطيب يوم الجمعة ﴿فَصَلَّى﴾ أي: صلاة الجمعة، فهذه الآية تشمل كلَّ الصلوات التي يسبقها ذِكْر، وما من صلاةٍ إلا ويسبقها ذِكْرٌ في الغالب. نعم، قد يصلِّي الإنسانُ صلاةً قد توضأ فيها من قبل، لكن الغالب أنَّ الإنسان يتوضأ قُبيل الصلاة فيذكر اسمَ الله ثم يصلي. * * * الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد، فهذا هو المجلس الثامن والخمسون من اللقاء المفتوح، والذي ابتدأناه بعد انتهاء موسم الحج في يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر ذي الحجة عام أربعة عشر وأربع مئة وألف، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يختم عامَنا بالخير والعفو والمغفرة. بقي علينا من التفسير في سورة الأعلى قول الله تبارك و تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (١٢) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥)بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٧) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٨) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ [الأعلى ٩ - ١٩]. بقي من قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾، هذه الجملة جملة فعليَّة مؤكَّدة بـ(قَدْ) ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾، والفلاح كلمةٌ عامَّة يُراد بها النجاةُ من المكروه والفوزُ بالمحبوب. وقوله: ﴿مَنْ تَزَكَّى﴾ أي: مَن تطهَّر ظاهرُه وباطنُه؛ فتطهَّر باطنُه من الشرك بالله عز وجل، ومن الشك، ومن النفاق، ومن العداوة للمسلمين والبغضاء، وغير ذلك مما يجب أن يتطهَّر القلب منه، وتطهَّر ظاهرُه من إطلاق لسانه وجوارحه في العدوان على عباد الله عز وجل؛ فلا يغتاب أحدًا، ولا ينمُّ عن أحد، ولا يسبُّ أحدًا، ولا يعتدي على أحدٍ بضربٍ أو جَحْدِ مالٍ أو غير ذلك، فالتزكِّي كلمة عامَّة تشمل التطهُّرَ من كلِّ درنٍ ظاهرٍ أو باطنٍ. ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾، ﴿ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ﴾ أي: ذكر اللَّهَ، ولكنَّه ذكر سبحانه وتعالى الاسمَ من أجْل أن يكون الذِّكر باللسان؛ لأنَّ الذِّكر باللسان ينطق اللسان فيه باسم الله؛ فيقول مثلًا: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، فيذكر اسم الله. وقد ذكر بعض العلماء أنَّ المراد بذِكر اسم الله هنا خطبةُ الجمعة؛ لقوله بعد ذلك: ﴿فَصَلَّى﴾، ولكن الصحيح أنها أعمُّ من هذا وأنَّ المراد به كلُّ ذِكْرِ اسمِ الله عز وجل؛ أي: كلَّما ذَكَر الإنسانُ اسمَ الله اتَّعظَ وأقبلَ إلى الله وصلَّى، والصلاة معروفة؛ هي عبادةٌ ذاتُ أقوالٍ وأفعالٍ مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب