الباحث القرآني

ثم قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا﴾ [الطارق ١٥] ﴿إِنَّهُمْ﴾ يعني الكفار المكذِّبين للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ﴿يَكِيدُونَ كَيْدًا﴾ أي: كيدًا عظيمًا، يكيدون للرسول عليه الصلاة والسلام ويكيدون لمن اتَّبعه، وانظر ماذا كانوا يفعلون في المؤمنين أيام كانوا في مكة من التعذيب والتوبيخ والتشريد، هاجر المسلمون مرَّتين إلى الحبشة، ثم هاجروا إلى المدينة، كلُّ ذلك فرارًا بدينهم من هؤلاء المجرمين الذين آذَوهم بكل كيد، وأعظم ما فعلوا بالنبي عليه الصلاة والسلام حين الهجرة؛ حيث اجتمع رؤساؤهم وأشرافهم يتشاورون ماذا يفعلون بمحمد، فكلَّما ذكروا رأيًا نقضوه؛ قالوا: هذا لا يصلح، حتى أشار إليهم -فيما ذكره التاريخ- الشيطانُ الذي جاء بصورة رجُلٍ وقال لهم: إنِّي أرى أن تختاروا عشرة شُبَّان من قبائل متفرِّقة وتعطوا كلَّ واحدٍ منهم سيفًا حتى يقتلوا محمدًا قتْلةَ رجُلٍ واحدٍ، فإذا فعلوا ذلك تفرَّق دمُه في القبائل، فلم تستطع بنو هاشم أن تقتصَّ من القبائل كلِّها فيرضخون إلى أخْذ الدِّية. وهذا هو الذي يريدون، فأجمعوا على هذا الرأي واستحسنوا هذا الرأي، وفِعْلًا جلس الشُّبَّان العشرة ينتظرون خروجَ النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليقتلوه، ولكنَّ النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم خرج من الباب وهُم جلوسٌ ولم يشاهدوه، وذكر التاريخ أنه جعل يذرُّ الترابَ على رؤوسهم إذلالًا لهم ويقرأ قول الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [يس ٩]. ولا تتعجَّبوا كيف خرج النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم من بينهم ولم يشاهدوه، لا تعجُّب من هذا؛ فها هم قريشٌ حين اختبأ النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الغار لَمَّا خرج من مكة يريد المدينة، اختبأ في الغار ثلاثة أيامٍ ليخِفَّ عنه الطلب؛ لأنَّ قريشًا صارت تطلبه، وجعلتْ لمن جاء به مئة بعير، ولمن جاء به مع أبي بكر مئتَيْ بعير، وهذه جائزة كبيرة، فوقفوا على الغار الذي فيه النبي ﷺ وأبو بكر، وكلُّنا يعلم أنَّ الغار المفتوح إذا كان فيه أحدٌ فسوف يُرى، ولكنَّهم لم يَرَوا النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا أبا بكر رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى قدمه لأبصرنا. فقال: «لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا، فَمَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟!»[[هذان حديثان في حديث: الأول أخرجه البخاري (٣٦١٥)، ومسلم (٢٠٠٩ / ٧٥)، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه؛ قول أبي بكر رضي الله عنه: فارتحلنا بعدما مالت الشمس، واتَّبعنا سراقة بن مالك، فقلت: أُتينا يا رسول الله. فقال: «لا تحزن إنَّ الله معنا». والثاني أخرجه البخاري (٤٦٦٣) ومسلم (٢٣٨١ / ١) عن أنسٍ قال: حدثني أبو بكر رضي الله عنه قال: كنتُ مع النبي ﷺ في الغار فرأيتُ آثار المشركين، قلتُ: يا رسول الله، لو أنَّ أحدهم رفع قدمه رآنا. قال: «ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما؟!».]]، فاطمأنَّ أبو بكر. هؤلاء القوم الذين وقفوا على الغار ليس عندهم قصورٌ في السمع، ولا قصورٌ في البصر، ولا قصورٌ في الذكاء، ولكن أعمى الله أبصارهم عنه، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبه، فلا تعجبوا أنْ خرج من بين هؤلاء الشُّبَّان العشرة كما قال أهل التاريخ وجعل يذرُّ الترابَ على رؤوسهم ويقول: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [يس ٩]. هنا يقول عز وجل في سورة الطارق: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا﴾، واتلُ قولَ الله تعالى في سورة الأنفال: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ﴾ يعني: يحبسوك ﴿أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال ٣٠].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب