الباحث القرآني
﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [البروج: ٢١، ٢٢].
﴿بَلْ هُوَ﴾ أي: ما جاء به الرسولُ عليه الصلاة والسلام ﴿قُرْآنٌ مَجِيدٌ﴾ أي: ذو عظمةٍ ومجد، ووَصْف القرآنِ بأنَّه مجيدٌ لا يعني أن المجد وصْفٌ للقرآن نفسه فقط، بل هو وصْفٌ للقرآن ولِمَن تحمَّل هذا القرآنَ فحمله وقام بواجبه من تلاوته حقَّ تلاوته، فإنَّه سيكون له المجد والعِزَّة والرِّفعة.
وقوله تعالى: ﴿فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ يعني بذلك اللوحَ المحفوظَ عند الله عز وجل الذي هو أمُّ الكتاب؛ كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد ٣٩].
هذا اللوح لو سألَنا سائلٌ: من أيِّ مادَّةٍ هو؟ ماذا نقول؟
* طالب: نقول: الله أعلم.
* الشيخ: نقول: الله أعلم. يعني لو قال: هل من خشب؟ من حديد؟ من زجاج؟ من ذهب؟ من فضة؟ ما ندري، هو لوحٌ كتب الله به مقاديرَ كلِّ شيءٍ، ومن جُملة ما كتب به أنَّ هذا القرآن سينزل على محمد ﷺ، فهو ﴿فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾.
قال العلماء: ﴿مَحْفُوظٍ﴾ لا يناله أحدٌ، محفوظٌ عن التغيير والتبديل. والتبديلُ والتغييرُ إنما يكون في الكتب الأخرى؛ لأنَّ الكتابة من الله عز وجل أنواعٌ، وأرجو أن تنتبهوا لهذا:
النوع الأول: الكتابة في اللوح المحفوظ، وهذه الكتابة لا تُبَدَّل ولا تُغَيَّر، ولهذا سَمَّاه الله لوحًا محفوظًا، لا يمكن أن يُبَدَّل أو يُغَيَّر ما فيه؛ لأنَّه هو النهائي.
الثاني: الكتابة على بني آدم وهُم في بطون أمَّهاتهم؛ لأنَّ الإنسان في بطن أمِّه إذا تَمَّ له أربعة أشهرٍ بعثَ الله إليه ملكًا موكَّلًا بالأرحام فينفخ فيه الروح بإذن الله، لأنَّ الجسد عبارة عن قطعة من لحم إذا نُفِخت فيه الروح صار إنسانًا، ويؤمَر بأربع كلمات: بكَتْب رِزقه، وأجَله، وعمله، وشقيٌّ أو سعيدٌ[[أخرج البخاري (٣٢٠٨)، ومسلم (٢٦٤٣ / ١)، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدَّثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق قال: «إنَّ أحدكم يُجمع خَلْقه في بطن أُمِّه أربعين يومًا، ثم يكون عَلَقَةً مِثْل ذلك، ثم يكون مُضْغةً مِثْل ذلك، ثم يَبْعثُ الله مَلَكًا فيُؤمَر بأربع كلمات ويُقال له: اكتبْ عملَه، ورِزقه، وأجَلَه، وشقيٌّ أو سعيدٌ...» الحديث.]].
هناك كتابة أخرى حوليَّة؛ كلَّ سَنَة، وهي الكتابة التي تكون في ليلة القَدْر؛ فإنَّ الله سبحانه وتعالى يُقَدِّر في هذه الليلة ما يكون في تلك السَّنَة؛ قال الله تبارك وتعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان ٤]، فيُكتَب في هذه الليلة ما يكون في تلك السَّنَة.
هناك كتابة رابعة، وهي كتابة الصُّحُف التي في أيدي الملائكة، وهذه الكتابة تكون بعد العمل، والكتابات الثلاث السابقة كلُّها قبل العمل، لكن الكتابة الأخيرة هذه تكون بعد العمل، يُكتَب على الإنسان ما يعمل من قولٍ بلسانه أو فعلٍ بجوارحه أو اعتقادٍ بقلبه، فإنَّ الملائكة الموكَّلين بحفظ بني آدم -أي: بحفظ أعمالهم- يكتبون؛ قال الله تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (١٠) كِرَامًا كَاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار ٩ - ١٢].
لكن هذه الكتابة الأخيرة تختلف عن الكتابات الثلاث السابقة؛ لأنها كتابة ما بعد العمل حتى يُكتَب على الإنسان ما عَمِل، فإذا كان يوم القيامة فإنَّه يُعطى هذا الكتاب؛ كما قال تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (١٣) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء ١٣، ١٤]، يعني تُعطَى الكتابَ ويُقال: أنت، اقرأْ وحاسبْ نفسَك. قال بعض السلف: لقد أَنْصفك مَن جعلك حسيبًا على نفسك. وهذا صحيح، أيُّ إنصافٍ أَبْلغ مِن أن يُقال للشخص: تفضَّل، هذا ما عَمِلْتَ، حاسبْ نفسَك؟! أليس هذا هو الإنصاف؟! أكبرُ إنصافٍ هو هذا، فيوم القيامة تُعطى هذا الكتابَ منشورًا مفتوحًا أمامك ليس مغلقًا، تقرأ، ويتبيَّن لك أنك عملتَ في يوم كذا في مكان كذا: كذا وكذا، شيءٌ مضبوطٌ ما يتغيَّر، وإذا أنكرتَ هنا مَن يشهد عليك؟ ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ﴾ يقول اللسان: نطقتُ بكذا، ﴿أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النور ٢٤]، تقول اليد: بطشتُ، تقول الرِّجل: مشيتُ، بل يقول الجِلد أيضًا، الجلود تشهد بما لمست؛ ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [فصلت ٢١].
المهمُّ الآن أنَّ اللوح المحفوظ هو هذا اللوح الذي كتب الله فيه مقاديرَ كلِّ شيءٍ، هو محفوظٌ من التغيير، محفوظٌ من أن يناله أحدٌ، والله سبحانه وتعالى يعلم ما كتب فيه، وقلنا: إنَّه محفوظٌ لأنه لا يتغيَّر، وما بأيدي الملائكة يتغيَّر. وقلنا: إنَّ الكتابات أربع: اللوح المحفوظ، الثاني: كتابة الأجنَّة، والثالث: الكتابة الحوليَّة تكون في ليلة القدر، والرابعة: كتابة الأعمال بعد وقوعها وتكون هذه بأيدي الملائكة؛ عن اليمين واحد من الملائكة وعن الشمال واحد، يسجِّلون على الإنسان كلَّ ما يقول.
نحن الآن نسجِّل في مسجِّل في الشريط لا يفوت شيءٌ من كلامنا، حتى النَّفَس يُدرَك بهذا الشريط، هم أيضًا -الملائكة- يكتبون كلَّ شيءٍ؛ ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد﴾ [ق ١٨]، و﴿مِنْ قَوْلٍ﴾ هذه يقول علماء البلاغة: إنَّ النكرة في سياق النفي تكون للعموم؛ أيُّ قولٍ تقوله فعندك رقيبٌ عتيدٌ حاضرٌ لا يغيب عنك.
ويُذكَر أنَّ الإمام أحمد رحمه الله كان مريضًا، وكان يئِنُّ في مرضه من شدَّة المرض، فدخل عليه أحد أصحابه وقال: يا أبا عبد الله، إنَّ طاوسًا -وهو رجلٌ من التابعين معروفٌ- يقول: إنَّ الملائكة تكتب على الإنسان حتى أنينَ المرض، حتى أنينَه في مرضه. فأمسكَ رحمه الله عن الأنين. فالأمر ليس بالأمر الهيِّن، نسأل الله تعالى أن يتولَّانا وإيَّاكم بعَفْوه ومغفرته.
وإلى هنا ينتهي الكلامُ على هذه السورة العظيمة التي ابتدأها الله تعالى بالقَسَم بالسماء ذاتِ البروج وأنهاها بقوله: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [البروج ٢١، ٢٢]، فمَن تمسَّك بهذا القرآن العظيم فله المجدُ والعِزَّة والكرامة والرِّفعة، ولهذا ننصح أُمَّتنا الإسلامية بادئينَ بأفراد شعوبها أن يتمسَّكوا بالقرآن العظيم، ونُوجِّه الدعوة على وجهٍ أوكد وأوكد إلى وُلاةِ أُمُورها أن يتمسَّكوا بالقرآن العظيم، وألَّا يغُرَّهم البهرج المزخرف الذي يَرِدُ من الأُمَم الكافرة التي تضع القوانين المخالِفة للشريعة، المخالِفة للعدل، المخالِفة لإصلاح الخلْق، أن يضعوها موضعَ التنفيذ ثم ينبذوا كتابَ الله وسُنَّة رسوله وراء ظهورهم، فإنَّ هذا -واللهِ- سببُ التأخُّر، ولا أظنُّ أحدًا يتصوَّر الآن أن أمَّةً بهذا العدد الهائل تكون متأخِّرةً هذا التأخُّرَ وكأنَّها إمارةٌ في قريةٍ بالنسبة للدول الكافرة، لكن سبب ذلك -لا شك- معلومٌ؛ هو أنَّنا تَرَكْنا ما به عِزَّتُنا وكرامتُنا وهو التمسُّك بهذا القرآن العظيم، وذهبْنا نلهثُ وراء أنظمةٍ بائدةٍ فاسدةٍ مخالفةٍ للعدل، مبنيَّةٍ على الظلم والجور.
فنحن نُناشد وُلاةَ أُمُورنا -وأقصد بوُلاة أمورنا وُلاةَ أُمُور المسلمين جميعًا؛ لأنَّنا أُمَّةٌ واحدةٌ وإن تفرَّقت بنا البلدان واختلفتْ منَّا الألسُن- أُناشِدُهم أن يتَّقوا الله عز وجل، وأن يرجعوا رجوعًا حقيقيًّا إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله ﷺ، حتى يستتبَّ لهم الأمنُ والاستقرارُ، وتحصلَ لهم العِزَّة والمجد والرِّفعة، وتطيعَهم شعوبُهم، ولا يكون في قلوب شعوبهم عليهم شيءٌ؛ وذلك لأنَّ الإنسان إذا أصلح ما بينه وبين ربِّه أصلح الله ما بينه وبين الناس، فإذا كان وُلاة الأمور يريدون أن تُذعِن لهم الشعوبُ وأن يطيعوا الله فيهم فلْيُطيعوا الله أوَّلًا حتى تطيعهم أُمَمُهم، وإلَّا فليس من المعقول أن يعصوا الملك الأكبر -وهو الله عز وجل- ثم يريدون أن تطيعهم شعوبُهم، هذا بعيد، بل كلَّما بَعُد القلبُ عن الله بَعُد الناسُ عن صاحبه-نسأل الله العافية- كلَّما قَرُب من الله قَرُب الناسُ منه، فنسأل الله أن يُعيد لهذه الأُمَّة الإسلامية مجدَها وكرامتَها، وأن يُذِلَّ أعداءَ المسلمين في كلِّ مكان، ونسأل الله تعالى أن ينصر إخوانَنا المسلمين في البوسنة والهرسك وأن يُعينهم على ما أصابهم من هؤلاء النصارى الذين لا يريدون أن يقوم للمسلمين قائمةٌ في أيِّ مكان، ونسأل الله أن يُذِلَّ النصارى واليهودَ، وأن يَكْبتهم، وأن يَرُدَّهم على أعقابهم خائبين، وكذلك كل عدوٍّ للمسلمين، إنَّه على كلِّ شيءٍ قدير.
{"ayahs_start":21,"ayahs":["بَلۡ هُوَ قُرۡءَانࣱ مَّجِیدࣱ","فِی لَوۡحࣲ مَّحۡفُوظِۭ"],"ayah":"بَلۡ هُوَ قُرۡءَانࣱ مَّجِیدࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











