الباحث القرآني

ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ [البروج ١١]. لَمَّا ذكر عقاب المجرمين ذكر ثواب المؤمنين، وهذه هي الطريقة المتَّبَعة فيما يُراد به الترغيب والترهيب، والقرآن الكريم قال الله تعالى إنه ﴿مَثَانِيَ﴾ [الزمر ٢٣] تُذْكر فيه المعاني المتقابلة؛ فيُذكر فيه عذابُ أهل النار ونعيمُ أهل الجنة، صفاتُ المؤمنين وصفاتُ الكافرين، من أجل أن يكون الإنسانُ سائرًا إلى الله تعالى بين الخوف والرجاء، ويعرف نعمة الله عليه بالإسلام، ويعرف حكمة الله تعالى في وجود هؤلاء الكافرين المجرمين. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾. ونقتصر على هذا الجزء، ونؤجل الكلام على هذه الآية إن شاء الله إلى الأسبوع القادم. * * * (...) بما كُنَّا نبدأ به أولًا من تفسير القرآن الكريم، وقد وصلنا إلى قوله تعالى في سورة البروج: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾، ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ هم الذين آمَنوا بالله، وملائكته، وكُتُبه، ورُسُله، واليوم الآخِر، والقدر خيره وشرِّه، فإنَّ هذا هو الإيمان كما فسَّره النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين سأله جبريل عن الإيمان فقال: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»[[أخرجه مسلم (٨ / ١) عن عمر رضي الله عنه، ولفظه: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكُتُبه، ورُسُله، واليوم الآخِر، وتؤمن بالقَدَر خيرِه وشرِّه».]]. وأمَّا قوله: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فالمراد عملوا الأعمالَ الصالحة، والأعمالُ الصالحةُ هي التي بُنِيتْ على الإخلاص لله واتِّباع شريعة الله، فمَن عَمِل عملًا أشركَ به مع الله غيرَه فعَمَلُه مردودٌ عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عن ربِّه أنَّه تعالى قال: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ؛ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»[[أخرجه مسلم (٢٩٨٥ / ٤٦) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]]. وأمَّا المتابَعة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنَّ مَن عَمِل عملًا ليس على شريعة الله فإنَّه باطلٌ مردودٌ؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٦٩٧) بنحوه، ومسلم (١٧١٨ / ١٨) واللفظ له، من حديث عائشة رضي الله عنها.]]، وبناءً على ذلك تكون عبادة الْمُرائي الذي يعبد الله لكن يُرائي الناس؛ أي: يُظهِر العبادةَ ليراه الناسُ فيمدحوه، هو لا يريد التقرُّبَ إلى الناس، يريد التقرُّبَ إلى الله، لكن يريد أن يمدحه الناسُ على تقرُّبه إلى الله وعبادته لله، فهذا مُراءٍ وعملُه مردودٌ أيضًا. كذلك مَن تكلَّم بكلامٍ: قرآنٍ أو ذِكْرٍ، ورَفَع صوتَه ليسمعه الناسُ ويمدحوه على ذِكْره لله، فهذا أيضًا مُراءٍ، عَمَلُه مردودٌ عليه؛ لأنَّه أشرك فيه مع الله غيرَه، أراد أن يمدحه الناسُ على عبادة الله. أمَّا مَن تعبَّد للناس فهذا مشركٌ شركًا أكبر؛ يعني مَن قام يصلِّي أمامَ شخصٍ تعظيمًا له لا لله وركع للشخص وسجد للشخص فهذا مشركٌ شركًا أكبر مخرجًا عن الملَّة، وكذلك أيضًا مَن ابتدع في دين الله ما ليس منه؛ كما لو رتَّب أذكارًا معيَّنةً في وقتٍ معيَّنٍ فإنَّ ذلك لا يُقبل منه، حتى ولو كان ذِكْر الله؛ لو كان تسبيحًا أو تحميدًا أو تكبيرًا أو تهليلًا ولكنَّه رتَّبه على وجهٍ لم تَرِد به السُّنَّة فإنَّ ذلك ليس مقبولًا عند الله عز وجل؛ لأنَّه عمل عملًا ليس عليه أمر الله ورسوله، فالمهمُّ أن الله اشترطَ مع الإيمان العملَ الصالح. وبهذا نعرف أنَّه لا ينبغي لنا أن نركِّز دائمًا على العقيدة ونقول: نحن على العقيدة الإسلامية وعلى كذا وعلى كذا، ولم نذكر العمل؛ لأنَّ مجرَّد العقيدة لا يكفي، لا بدَّ من عمل، فينبغي عندما تذكر أنَّنا على العقيدة الإسلامية، ينبغي أن تقول: ونعمل العمل الصالح؛ لأنَّ الله يقرن دائمًا بين الإيمان المتضمِّن للعقيدة وبين العمل الصالح حتى لا يخلو الإنسانُ من عملٍ صالحٍ، أمَّا مجرَّد العقيدة فلا ينفع؛ لو أنَّ الإنسان يقول: أنا مؤمنٌ بالله، لكن لا يعمل، أين الإيمان بالله؟! ولهذا كان القول الراجح من أقوال العلماء أنَّ تارك الصلاة كافرٌ كفرًا مخرجًا عن الملَّة، وقد بيَّنَّا أدلَّةَ ذلك في رسالةٍ لنا صغيرةٍ، وكذلك أيضًا يمرُّ علينا في نور على الدرب أسئلةٌ حول هذا الموضوع ونبيِّن الأدلَّة بما يغني عن إعادتها هنا. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾، ﴿لَهُمْ﴾ يعني: عند الله، ﴿جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾، وذلك بعد البعث؛ فإنهم يدخلون هذه الجنات التي فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بَشَر، ولهذا قال الله تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة ١٧]، وقال الله في الحديث القدسي: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»[[أخرجه مسلم (٢٨٢٥ / ٥) من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.]]؛ لأنَّ فيها من النعيم ما لا يتصوَّره الإنسان، والله تعالى يذكر فيها -أي: في الجنات- نخلًا ورمَّانًا وفاكهةً ولحمَ طيرٍ وعسلًا ولبنًا وماءً وخمرًا، لكنْ لا تظنُّوا أنَّ حقائق هذه الأشياء كحقائق ما في الدنيا أبدًا؛ لأنها لو كانت حقائقها كحقائق ما في الدنيا لَكُنَّا نعلم ما أُخْفِي لنا من هذا، ولكنَّها أعظم وأعظم بكثيرٍ مما تتصوَّره؛ فالرُّمَّان، وإنْ كُنَّا نعرف معنى الرُّمَّان ونعرف أنَّه على شكلٍ معيَّنٍ وطعمٍ معيَّنٍ وذو حبَّاتٍ معيَّنة، لكن ليس الرُّمَّان الذي في الآخرة كهذا، أعظم بكثير، لا من جهة الحجم، ولا من جهة اللون، ولا من جهة المذاق، لكن كما قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: «ليس في الدنيا شيءٌ مما في الجنَّة إلا الأسماء فقط»[[أخرجه هنَّاد في الزهد (٣) عنه ولفظه: «ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء».]]، أمَّا الحقائق فهي غير معلومة. وقوله: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ قال العلماء: ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾ أي: من تحت أشجارها وقصورها. وإلَّا فهي على السطح، فوق، ثم هذه الأنهار جاء في الأحاديث أنَّها لا تحتاج إلى حَفْر، ولا تحتاج إلى بناء أخدود[[أخرج أبو نعيم في الحلية (٦ / ٢٠٥) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: «لعلَّكم تظنُّون أنَّ أنهار الجنة أخدودٌ في الأرض، لا واللهِ، إنها لَسائحةٌ على وجه الأرض، حافتاها خيام اللؤلؤ، وطينها المسك الأذفر». قلت: يا رسول الله، وما الأذفر؟ قال: «الذي لا خِلط معه». وأخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة (٦٩) عن أنسٍ موقوفًا.]]، وفي هذا يقول ابن القيم في النونية: ؎أَنْهَارُهَا فِي غَيْرِ أُخْدُودٍ جَرَتْ ∗∗∗ سُبْحَانَ مُمْسِكِهَا عَنِ الْفَيَضَانِ الأنهار في المعروف عندنا أنها تحتاج إلى حَفْرٍ أو إلى أخدودٍ تمنع من تسرُّب الماء يمينًا وشمالًا، لكن في الجنة لا تحتاج إلى أخدود، تجري حيث شاء الإنسان؛ يعني يوجِّهها كما شاء بدون حَفْرٍ وبدون إقامة أخدود، والأنهار هنا وفي آياتٍ كثيرةٍ مجملةٌ، لكنَّها فُصِّلت في سورة القتال؛ سورة محمد؛ قال: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾ [محمد ١٥]. ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾، ﴿ذَلِكَ﴾ المشار إليه الجنات وما فيها من النعيم. ﴿الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ يعني: الذي به النجاةُ من كلِّ مرهوبٍ وحصولُ كلِّ مطلوب؛ لأنَّ الفوز هو عبارةٌ عن حصول المطلوب وزوال المكروه، والجنة كذلك فيها كلُّ مطلوبٍ وقد زال عنها كلُّ مرهوب؛ فلا يذوقون فيها الموتَ، ولا المرضَ، ولا السقمَ، ولا الهمَّ، ولا النَّصَبَ، نسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم من أهلها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب