الباحث القرآني

ولكنْ مع ذلك ومع فعلهم هذه الفعلة الشنيعة قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ [البروج ١٠]. قال بعض السلف: انظُر إلى حِلم الله عز وجل؛ يحرقون أولياءه ثم يعرض عليهم التوبة؛ يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ﴾، وإنْ تابوا فلا شيء عليهم، فتأمَّل يا أخي حِلم الله عز وجل، حيث يحرِّق هؤلاء الكفَّارُ أولياءَه، والتحريق أشدُّ ما يكون من التعذيب، ثم يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾. قال العلماء: ﴿فَتَنُوا﴾ بمعنى أحرقوا؛ كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ [الذاريات ١٣، ١٤]، هؤلاء أحرقوا المؤمنين وأحرقوا المؤمنات؛ يأتون بالرجل، بالمرأة، يحرقونهم في النار. يقول عز وجل: ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾ أي: يرجعوا إلى الله ﴿فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ لأنهم أحرقوا أولياءَ الله، فكان جزاؤهم مثل عملهم جزاءً وِفاقًا. في هذه الآيات من العِبَر: أنَّ الله سبحانه وتعالى قد يُسَلِّط أعداءَه على أوليائه، فلا تستغرب إذا سَلَّط الله عز وجل الكفارَ على المؤمنين وقتلوهم وحرَّقوهم وانتهكوا أعراضَهم، لا تستغرب، لله تعالى في هذا حكمة، المصابون من المؤمنين أجرُهم عند الله عظيم، وهؤلاء الكفار المعتدون أَمْلى لهم الله سبحانه وتعالى ويستدرجهم من حيث لا يعلمون. والمسلمون الباقون لهم عِبرة وعِظَة فيما حصل لإخوانهم؛ فمثلًا نحن الآن نسمع ما يحصل بالبوسنة والهرسك من الانتهاكات العظيمة؛ انتهاك الأعراض، وإتلاف الأموال، وتجويع الصغار والعجائز، نسمع أشياء تُبكي، فنقول: سبحان الله! ما هذا التسليط الذي سلَّطه الله على هؤلاء المؤمنين؟! نقول: يا أخي، لا تستغربْ؛ فالله سبحانه وتعالى ضرب لنا أمثالًا فيمَن سبق، يحرِّقون المؤمنين بالنار، فهؤلاء الذين سُلِّطوا على إخواننا في البوسنة والهرسك وغيرها من بلاد المسلمين .. لا تستغربْ، هذا رِفْعةُ درجاتٍ للمصابين وتكفيرُ سيِّئات، وهو عبرةٌ للباقين، علينا أن نعتبر، وهو أيضًا إغراءٌ لهؤلاء الكافرين حتى يتسلَّطوا فيأخذهم الله عز وجل أخْذ عزيزٍ مقتدر. وفي هذه الآيات من العِبَر: أنَّ هؤلاء الكفار لم يأخذوا على المسلمين بذنب، إلا شيئًا واحدًا وهو أنهم يؤمنون بالله العزيز الحميد، وهذا ليس بذنب، بل هذا هو الحق، ومَن أنكره فهو الذي يُنكَر عليه. نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينصر المسلمين في كل مكان، وأن يقينا شرَّ أعدائنا وأن يجعل كيدهم في نحورهم، إنَّه على كل شيءٍ قدير. * * * (...) أمَّا بعدُ فهذا هو اللقاء الثالث في شهر جمادى الثانية عام أربعة عشر وأربع مئةٍ وألف الذي يكون كلَّ خميس، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا جميعًا به، وأن يرزقنا وإيَّاكم العلمَ النافعَ والعملَ الصالحَ وأن يتوفَّانا على الإيمان. اخترنا في أول لقاءاتنا أن نتكلم على التفسير من سورة النبأ؛ لأن هذا الجزء الأخير من الكتاب العزيز تكثر قراءته، فاخترنا أن يكون الناسُ فيه على علم؛ لأنَّ الفائدة من القرآن هي التدبُّر والاتِّعاظ؛ كما قال الله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص ٢٩]. وانتهينا إلى قوله تعالى في سورة البروج: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ [البروج ١٠]، فتنوهم يعني: أحرقوهم، على قول بعض أهل العلم؛ لأنَّ هؤلاء المجرمين خَدُّوا أخاديد؛ أي: شقُّوا سراديبَ في الأرض، وأوقدوا فيها النيران، وأحرقوا فيها المؤمنين، فيكون معنى ﴿فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ﴾ يعني: أحرقوا المؤمنين. وقيل: فتنوهم؛ أي: صَدُّوهم عن دينهم. والصحيح أنَّ الآية شاملةٌ للمعنيين جميعًا؛ لأنه ينبغي أن نعلم أن القرآن معانيه أوسع من أفهامنا، معاني القرآن أوسع من أفهامنا، وأنَّه مهما بلغْنا من الذكاء والفطنة فلن نحيط به علمًا، إنما نعلم منه ما تيسَّر، والقاعدة في علم التفسير أنَّه إذا كانت الآية تحتمل معنيين لا يتضادَّانِ فإنها تُحمَل عليهما جميعًا، فنقول: هم فتنوا المؤمنين بصدِّهم عن سبيل الله وفتنوهم بالإحراق أيضًا. ولكن مع هذا يقول الله عز وجل: ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ﴾، فدلَّت الآية الكريمة على أنهم لو تابوا لَغفر الله لهم، حتى ولو فعلوا بأوليائه ما فعلوا فإنَّ الله يتوب عليهم؛ لأنَّ الله يقول: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾ [الشورى ٢٥]. ﴿فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ﴾ أي: عذاب النار يُعذَّبون بها، ﴿وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ يُحرَقون في نار جهنم، نسأل الله العافية. وفي الآية إشارةٌ إلى أنَّ التوبة تهدم ما قبلها، ولكن يا إخواني لا بدَّ أن نعلم أنَّ التوبة لا تكون توبةً نصوحًا مقبولةً عند الله إلا إذا اشتملتْ على شروطٍ خمسة: الأول: الإخلاص لله عز وجل بأنْ يكون الحامل للإنسان على التوبة خوفَ الله عز وجل ورجاءَ ثوابه؛ لأنَّ الإنسان قد يتوب من الذنب من أجل أن يمدحه الناس، أو من أجل دَفْع مَذَمَّة الناس له، أو من أجل مرتبةٍ يَصِل إليها، أو من أجل مالٍ يحصل عليه، كلُّ هؤلاء لا تُقبل توبتُهم، لماذا؟ لأنَّ التوبة يجب أن تكون خالصةً لله عز وجل، وأمَّا مَن أراد بعمله الدنيا فإنَّ الله تعالى يقول في كتابه: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ﴾ [هود ١٥، ١٦]. الثاني من شروط كون التوبة نصوحًا: الندم على ما حصل من الذنب؛ بمعنى ألَّا يكون الإنسانُ كأنَّه لم يُذنب ما يتحسَّر ولا يحزن، لا بدَّ أن يندم؛ إذا ذكر عظمة الله نَدِم: كيف أعصي ربي وهو الذي خلقني ورزقني وهداني؟! فيندم، كما لو عصى الإنسانُ أباه فإنه يندم. الثالث: أن يُقلع عن الذنب؛ فلا تصحُّ التوبة مع الإصرار على الذنب؛ لأنَّ التائب هو الراجع، فإذا كان الإنسان يقول: أستغفرُ الله وأتوبُ إليه مِن أكْل الربا، ولكنَّه لايزال يُرابي، فهل تصحُّ توبتُه؟ لا، لا تصحُّ توبتُه. لو قال: أستغفر الله من الغِيبة، والغِيبة ذِكْرك أخاك بما يكره، ولكنَّه في كلِّ مجلسٍ يغتاب الناس، هل تصحُّ توبتُه؟ لا، كيف تصح وهو مُصِرٌّ على المعصية؟! فلا بدَّ أن يُقلع. إذا تاب من أكْل أموال الناس وقد سَرَق من هذا وأخَذ مالَ هذا بخداعٍ وغشٍّ، فهل تصِحُّ توبتُه؟ لا، حتى يرُدَّه، حتى يرُدَّ ما أخذ من أموال الناس إلى الناس. لو فرضْنا أنَّ شخصًا أدخلَ مراسيمه في ملك جاره واقتطع جزءًا من أرضه، وقال: إني تائب، ماذا نقول له؟ رُدَّ المراسيم إلى حدودها الأولى، وإلَّا فإنَّ توبتك لا تُقبل؛ لأنه لا بدَّ من الإقلاع عن الذنب الذي تاب منه. والشرط الرابع: أن يعزم عزمًا تامًّا ألَّا يعود إلى الذنب، فإنْ تاب وهو في نفسه لو حصل له الفرصة لَعاد إلى الذنب فإنَّ توبته لا تُقبل، بل لا بدَّ أن يعزم عزمًا أكيدًا على ألَّا يعود. والشرط الخامس: أن تكون التوبة في وقتٍ تُقبل فيه التوبة؛ لأنَّه يأتي أوقاتٌ ما تُقبل فيها التوبة، انتبِهوا لهذا الشرط الأخير، تأتي أوقاتٌ لا تُقبل توبة الإنسان، وذلك في حالين: الحال الأولى: إذا حضره الموت فإنَّ توبته لا تُقبل؛ لقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ [النساء ١٨]، بعدما عاين الموتَ وشاهدَ العذابَ يقول: تبت؟! ما ينفع هذا. ومثالٌ واقعٌ لهذه المسألة وهو أنَّ فرعون لَمَّا أدركه الغرقُ ماذا قال؟ ﴿قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ [يونس ٩٠]؛ يعني بالله، ولم يقل: آمنتُ بالله، إذلالًا لنفسه؛ حيث كان يحارب بني إسرائيل على الإيمان بالله، والآن يقول: آمنتُ بالذي آمَنوا به، فكأنَّه جعل نفسَه تابعًا لِمَن؟ لبني إسرائيل، إلى هذا الحد بلغ به الذلُّ، ومع ذلك قيل له: ﴿آلْآنَ﴾ آلآن تتوب؟! آلآن تؤمن بالذي آمَنَتْ به بنو إسرائيل؟! ﴿وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس ٩١]، إذَنْ إذا حضر الموتُ فإنَّ التوبة لا تُقبل. وأنا أسأل كلَّ واحدٍ منكم: هل يعلم متى يحضره الموت؟ * طلبة: لا. * الشيخ: لا، إذَنْ لا بدَّ من المبادرة بالتوبة؛ لأنَّك لا تدري في أيِّ وقتٍ يحضرك الموت؛ ألَمْ تعلموا أنَّ مِن الناس مَن نام على فراشه في صحَّةٍ وعافيةٍ ثم حُمِل من فراشه إلى سرير تغسيله؟! نعلم هذا، وقع. ألَمْ تعلموا أنَّ بعض الناس جَلَس على كرسيِّ العمل يعمل، ثم حُمِل مِن كرسيِّ العمل إلى سرير التغسيل؟! كل هذا واقع. فإذَنْ يجب أن نُبادر بالتوبة، أن نُبادر بها، نسأل الله أن يُعينني وإيَّاكم على ذلك، بادِروا بالتوبة قبل أن تُغلق الأبواب، بادروا. يقول جل وعلا: ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾ قلنا: إنها لا تُقبل التوبة في حالين: الحالة الأولى: إذا حضره الموت. والحالة الثانية: إذا طلعت الشمسُ من مغربها؛ فإنَّ الشمس إذا طلعت من مغربها ورآها الناس آمَنوا، لكن الله يقول: ﴿لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾ [الأنعام ١٥٨]. فشروط قبول التوبة خمسة، نسأل الله أن يُعيننا وإيَّاكم على تحقيقها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب