الباحث القرآني
(...) يوم الخميس، وبه نختتم ما بقي من سورة الانشقاق، فقد انتهينا إلى قوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾ [الانشقاق ١٦ - ١٩]. هذه الجملة مكوَّنة من قَسَم، ومُقسَم به، ومقسَم عليه، ومُقسِم، فالقسم في قوله: ﴿لَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ﴾ قد يظنُّ الظانُّ أن معنى ﴿لَا أُقْسِمُ﴾ نفي، وليس كذلك، بل هو إثبات، و(لا) هنا جيء بها للتنبيه، ولو حُذفتْ في غير القرآن لَاستقام الكلام، ولها نظائر مثل: ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ [البلد ١]، ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [القيامة ١]. ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ﴾ [المعارج ٤٠]، ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ﴾ [الحاقة ٣٨]، وكلُّها يقول العلماء: إن (لَا) فيها للتنبيه، وإنَّ القَسَم مثبت.
أمَّا المقْسِم فهو الله عز وجل، فهو سبحانه مُقْسِمٌ، أمَّا المقسَم به في هذه الآية فهو الشَّفَق وما عُطف عليه.
فإن قال قائل: لماذا يُقسم الله على خبره وهو سبحانه الصادق بلا قَسَم؟ وكذلك يُقسم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على خبره وهو صادقٌ بلا قَسَم؟
قلنا: إنَّ القَسَم يؤكِّد الكلام، والقرآن العربي نزل باللسان العربي، وإذا كان مِن عادتهم أنهم يؤكِّدون الكلام بالقسم صار هذا الأسلوب جاريًا على اللسان العربي الذي نزل به القرآن.
وقوله: ﴿بِالشَّفَقِ﴾ الشَّفَق هو الحُمرة التي تكون بعد غروب الشمس، وإذا غابت هذه الحُمرة خرج وقتُ المغرب ودخل وقتُ العشاء، هذا قول أكثر العلماء. وبعضهم قال: إذا غاب البياض، وهو يغيب بعد الحُمرة بنحو نصف ساعة، لكن الذي عليه الجمهور -ويقال: إنَّ أبا حنيفة رحمه الله رجع إليه- هو أنَّ الشَّفَق هو الحُمرة، وإذا غاب هذا الشَّفَق فإنَّه يدخل وقت العشاء ويخرج وقت المغرب.
﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ﴾ هذا أيضًا مُقْسَمٌ به معطوفٌ على الشفق؛ يعني: وأُقسِم بالليل وما وسق. وهذان قَسَمان: الليل، وما وسق. الليل معروف، فما معنى ﴿مَا وَسَقَ﴾؟ أي: ما جمع؛ لأنَّ الليل يجمع الوحوش والهوامَّ وما أشبهَ ذلك، تجتمع وتخرج، تَبرز من جحورها وبيوتها، وكذلك ربما يشير إلى اجتماع الناس بعضهم إلى بعض.
﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾ القمر معروف، ومعنى ﴿إِذَا اتَّسَقَ﴾ يعني: إذا اجتمع نوره وتمَّ وكمل، وذلك في ليالي الإبدار، فأقسمَ الله عز وجل باللَّيل وما وَسَق؛ أي: ما جمع، وبالقمر لأنَّه آية الليل.
ثم قال بعد ذلك: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾ والخطاب هنا لجميع الناس؛ أي: لتركبُنَّ حالًا عن حال، وهو يعني أنَّ الأحوال تتغيَّر؛ فيشمل أحوال الزمان، وأحوال المكان، وأحوال الأبدان، وأحوال القلوب، انتبِهوا، تضمَّن أربعة أشياء، ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾ ما قلنا فيها؟ حالًا بعد حال. فماهي؟ قلنا: أحوال الزمان، وأحوال المكان، وأحوال الأبدان، وأحوال القلوب.
أحوال الزمان نعرف أنها تتنقَّل؛ ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران ١٤٠]، فيومٌ يكون فيه السرور والانشراح وانبساط النفس، ويومٌ آخَر يكون بالعكس، حتى إنَّ الإنسان لَيشعر بهذا من غير أن يكون هناك سببٌ معلوم، وفي هذا يقول الشاعر:
؎وَيَوْمٌ عَلَيْنَا وَيَوْمٌ لَنَا ∗∗∗ وَيَوْمٌ نُسَاءُ وَيَوْمٌ نُسَرّْ
وهذا شيءٌ يعرفه مِنَّا كلُّ واحدٍ بنفسه، تصبح اليوم مستأنسًا فرحًا مسرورًا، في اليوم الثاني بالعكس بدون سبب، لكن هكذا لا بدَّ أن الإنسان يركب طبقًا عن طبق.
كذلك في الأمكنة؛ ينزل الإنسان هذا اليوم منزلًا، وفي اليوم التالي منزلًا آخَر، وثالثًا، ورابعًا، إلى أن تنتهي به المنازل في الآخرة، وما قبل الآخرة وهو القبور هي منازل مؤقتة، القبور ليست هي آخر المنازل، بل هي مرحلة. وسمع أعرابيٌّ رجلًا يقرأ قول الله تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ [التكاثر ١، ٢] فقال الأعرابي: واللهِ ما الزائر بمقيم. يعني الأعرابي بفطرته عرف أنَّ وراء هذه القبور شيئًا يكون المصير إليه؛ لأنَّه كما نعرف الزائر يزور ويمشي، وبه نعرف أنَّ ما نسمعه في الجرائد: فلان تُوُفِّي ثم نقلوه إلى مثواه الأخير، أنَّ هذه الكلمة غلط كبير، ومدلولها كفرٌ باليوم الآخِر؛ لأنك إذا جعلتَ القبر هو المثوى الأخير، فهذا يعني أنَّه ليس بعده شيء، وهذا كفر، الذي يرى أنَّ القبر هو المثوى الأخير وليس بعده مثوى كافرٌ، المثوى الأخير إمَّا جنة وإمَّا نار.
ذكرنا الآن حالين: الحال الأولى الزمان، والثانية المكان.
الثالث: الأبدان؛ الأبدان يركب الإنسان فيها طبقًا عن طبق، واستمعْ إلى قول الله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ [الروم ٥٤]. أول ما يُخلَق الإنسان طفلًا صغيرًا، يمكن أن تجمع يديه ورِجليه بيدٍ واحدةٍ منك وتحمله بهذه اليد، ضعيف، ثم لا يزال يَقوى رويدًا رويدًا حتى يكون شابًّا جلدًا قويًّا، ثم إذا استكمل القوة عاد فرجع إلى الضعف.
وقد شبَّه بعضُ العلماء حال البدن بحال القمر يبدو هلالًا ضعيفًا، ثم يكبر شيئًا فشيئًا حتى يمتلىء نورًا، ثم يعود ينقص شيئًا فشيئًا حتى يضمحلَّ، نسأل الله أن يُحسن لنا ولكم الخاتمة، هذا حال الأبدان.
الرابعة: حال القلوب، وما أدراك ما أحوال القلوب! أحوال القلوب هي البليَّة، هي المصيبة، هي النعمة، هي النقمة، القلوبُ كلُّ قلوبِ بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلِّبه كيف يشاء، فإنْ شاء أزاغه وإن شاء هداه، كلُّ قلب، ولَمَّا حدَّث النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الحديث قال: «اللَّهُمَّ مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»[[أخرجه أحمد (٢٦٥٧٦) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.]]، فالقلوب لها أحوال عجيبة؛ تارةً يتعلَّق القلب بالدنيا، وتارةً يتعلَّق بشيءٍ من الدنيا، تارةً يتعلَّق بالمال ويكون المالُ أكبرَ همِّه، تارةً يتعلَّق بالنساء وتكون النساءُ أكبرَ همِّه، تارةً يتعلَّق بالقصور والمنازل ويكون ذلك أكبرَ همِّه، تارةً يتعلَّق بالمركوبات والسيارات ويكون ذلك أكبرَ همِّه، تارةً يكون مع الله عز وجل، دائمًا مع الله، يتعلَّق بالله سبحانه وتعالى، ويرى أنَّ الدنيا كلَّها وسيلةٌ إلى عبادة الله وإلى طاعة الله، فيستخدم الدنيا لأنها خُلِقت له، ولا تستخدمه الدنيا.
شوفوا يا إخواني، أصحاب الدنيا هل تظنُّون أن الدنيا تخدمهم أمْ هم يخدمونها؟ هم الذين يخدمونها، هم الذين أتعبوا أنفسَهم في تحصيلها، لكن أصحاب الآخرة هم الذين استخدموا الدنيا وخَدَمتْهم الدنيا، ولذلك لا يأخذونها إلا عن طريق رضا الله، ولا يصرفونها إلا في رضا الله عز وجل، فاستخدموها أخذًا وصرفًا، لكن أصحاب الدنيا الذين تَعِبوا بها؛ سهروا الليالي يراجعون الدفاتر، يراجعون الشيكات، يراجعون المصروفات، يراجعون المدفوعات، يراجعون ما أخذوا وما صرفوا، هؤلاء في الحقيقة استخدمتْهم الدنيا ولم يستخدموها، لكن الرجُل المطمئن الذي جعلَ اللَّهُ رِزقَه كفافًا يستغني به عن الناس ولا يشتغل به عن طاعة الله، هذا هو الذي خدمتْه الدنيا، هذه أحوال القلوب.
أحوال القلوب هي أعظم الأحوال الأربع، ولهذا يجب علينا جميعًا -وأقوله لنفسي قبلكم- أن نراجع قلوبَنا كلَّ ساعة، كلَّ لحظة: أين انصرفتَ أيها القلب؟ أين ذهبتَ؟ لماذا تنصرف عن الله؟ لماذا تلتفت يمينًا وشمالًا؟ ولكن نعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وغلب على كثيرٍ من الناس، حتى إنَّه لَيصرف الإنسانَ عن صلاته التي هي رأس ماله بعد الشهادتين، فتجده إذا دخل في صلاته ذهب قلبُه يمينًا وشمالًا حتى يخرج من صلاته ولم يعقل منها شيئًا، والناس يصيحون يقولون: صلاتُنا لا تنهانا عن الفحشاء والمنكر، أين وَعْد الله؟!
فيقال: يا أخي هل صلاتك صلاة؟! إذا كنتَ من حين تُكَبِّر تفتح لك باب الهواجيس التي لا نهاية لها، فهل أنت مُصَلٍّ؟! صلَّيتَ بجسمك لكن لم تُصَلِّ بقلبك، وقد جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام: «إِنَّهُ لَيْسَ لَكَ مِنْ صَلَاتِكَ إِلَّا مَا عَقَلْتَ مِنْهَا»[[هو أثرٌ من قول عمار بن ياسر رضي الله عنه، ذكره أبو طالب المكي في قوت القلوب (٢ / ١٧٠) بلفظ: إنما يُكتَب للعبد من صلاته ما عقل منها. وأخرج ابن المبارك في الزهد (١٣٠٠) عن عمار رضي الله عنه قوله: لا يُكتَب للرجل من صلاته ما سها عنه.]]، نصفها، رُبعها، ثُلثها، عُشرها، خُمسها، حسب ما تعقل منها. إذَنْ فالقلوب تركب طبقًا عن طبق.
{"ayahs_start":16,"ayahs":["فَلَاۤ أُقۡسِمُ بِٱلشَّفَقِ","وَٱلَّیۡلِ وَمَا وَسَقَ","وَٱلۡقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ","لَتَرۡكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقࣲ"],"ayah":"وَٱلَّیۡلِ وَمَا وَسَقَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق