الباحث القرآني

هؤلاء المطفِّفون فسَّرتهم الآيات التي بعدها، فقال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ [المطففين ٢، ٣]. ﴿إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ﴾ يعني: اشتروا منهم ما يُكال، استوفوا منهم الحقَّ كاملًا بدون نَقْص. ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ﴾ يعني: إذا كالوا لهم؛ بأن كانوا هم الذين باعوا الطعام كيلًا، فإنهم إذا كالوا للناس أو باعوا عليهم شيئًا وزنًا إذا وَزَنوا للناس نقصوا؛ ﴿يُخْسِرُونَ﴾، فهؤلاء -والعياذ بالله- يستوفون حقَّهم كاملًا وينقصون حقَّ غيرهم، فجمعوا بين الأمرين؛ بين الشُّحِّ والبخل؛ الشُّح في طلب حقِّهم كاملًا بدون مراعاةٍ أو مسامحة، والبخل بمنع ما يجب عليهم من إتمام الكيل والوزن. وهذا المثال الذي ذكره الله عز وجل في الكيل والوزن هو في الحقيقة مثال، فيُقاس عليه كلُّ ما أشبه، كلُّ مَن طلب حقَّه كاملًا مِمَّن هو عليه ومنعَ الحقَّ الذي عليه فإنه داخلٌ في الآية الكريمة؛ فمثلًا الزوج يريد من زوجته أن تعطيه حقَّه كاملًا ولا يتهاون في شيءٍ من حقِّه، لكنَّه عند أداء حقِّها يتهاون ولا يعطيها الذي لها، وما أكثر ما تشكي النساءُ من هذا الطراز من الأزواج، والعياذُ بالله؛ حيث إنَّ كثيرًا من النساء يريد منها الزوج أن تقوم بحقِّه كاملًا، لكنَّه هو لا يعطيها حقَّها كاملًا، ربما ينقص أكثر حقِّها من النفقة والعِشرة بالمعروف وغير ذلك. والغريب -أيها الإخوة- أنَّ هذا يقع كثيرًا من الناس الذين ظاهِرهم الالتزام، حتى إنَّ بعض النساء تقول: أنا ما اخترتُ قبول هذا الزوج إلا لِمَا له من السُّمعة الحسنة والالتزام. فإذا به ينقلب ويكون أسوأَ حالًا بالنسبة لزوجته من أهل الفسق، فلا أدري عن هؤلاء الذين ظاهرهم الالتزام، هل يظنُّون أنَّ الالتزام أن يقوم الإنسان بعبادة الله فقط ويُضيع حقوقَ الناس؟! إنَّ ظُلم الناسِ أشدُّ من ظُلم الإنسان نفسَه في حقِّ الله؛ لأنَّ ظُلم الإنسان نفسَه في حقِّ الله تحت المشيئة إذا كان دون الشرك؛ إن شاء الله غفر له وإن شاء عاقبه عليه، لكن حق الآدميِّين ليس داخلًا تحت المشيئة، لا بدَّ أن يُوفَى، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «مَنْ تَعُدُّونَ الْمُفْلِسَ فِيكُمْ؟». قالوا: مَن لا درهم عنده ولا دينار، أو قالوا: ولا متاع. قال: «لَا، الْمُفْلِسُ مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ -كثيرة- فَيَأْتِي وَقَدْ ظَلَمَ هَذَا، وَشَتَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، وَأَخَذَ مَالَ هَذَا، فَيَأْخُذُ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيءٌ، وَإِلَّا أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»[[أخرج مسلم (٢٥٨١ / ٥٩) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله ﷺ قال: «أتدرون ما المفلس؟». قالوا: المفلس فينا مَن لا درهم له ولا متاع. فقال: «إنَّ المفلس من أمَّتي يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا، وقَذَف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإنْ فَنِيتْ حسناتُه قبل أن يُقضى ما عليه أُخِذَ من خطاياهم فطُرِحتْ عليه، ثم طُرِح في النار».]]. فنصيحتي لهؤلاء الإخوة الذين يفرِّطون في حقِّ أزواجهم سواءٌ كانوا من الملتزمين أو من غيرهم أنْ يتَّقوا الله عز وجل؛ فإنَّ النبيَّ ﷺ أوصى بذلك في أكبر مجمعٍ شَهِده العالَم الإسلامي في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام في يوم عرفة في حجَّة الوداع، قال: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ؛ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ»[[أخرجه مسلم (١٢١٨ / ١٤٧) من حديث جابر بن عبد الله.]]، فأَمَرنا أن نتَّقي الله تعالى في النساء، وقال: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ؛ فَإِنَّهُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ»[[أخرجه أحمد (٢٠٦٩٥) من حديث عم أبي حرة الرقاشي رضي الله عنه ولفظه: «فإنهنَّ عندكم عوانٍ».]]. أي: بمنزلة الأسرى؛ لأنَّ الأسير إن شاء فكَّه الذي أَسَره وإن شاء أبقاه، المرأة عند زوجها كذلك إن شاء طلَّقها وإن شاء أبقاها، فهي بمنزلة الأسير عنده، فليتَّقِ الله فيها. كذلك أيضًا نجد بعضَ الناس يريد من أولاده أن يقوموا بحقِّه على التمام لكنَّه مفرِّطٌ في حقِّهم، فيريد من أولاده أن يبرُّوه ويقوموا بحقِّه؛ أن يبرُّوه في المال وفي البَدَن وفي كلِّ شيءٍ يكون به البر، لكنَّه هو مضيِّعٌ لهؤلاء الأولاد، غيرُ قائمٍ بما يجب عليه نحوهم، نقول: هذا مطفِّف.كما نقول في المسألة الأولى -في مسألة الزوج مع زوجته-: إنَّه إذا أراد منها أن تقوم بحقِّه كاملًا وهو يبخس حقَّها، نقول: إنَّه مطفِّف. هذا الأب الذي أراد من أولاده أن يبرُّوه تمام البرِّ وهو مقصِّر في حقِّهم نقول: إنك مطفِّف. ونقول له: تذكَّر قولَ الله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ [المطففين ١ - ٣].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب