الباحث القرآني

.. على آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد.. فإننا وقفنا في تفسير جزء عم على سورة التكوير، وها نحن نبدأ بها إن شاء الله في هذا اللقاء يوم الخميس الأول من شهر ذي القعدة عام ثلاثة عشر وأربع مئة وألف، فنقول: قال الله عز وجل: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ [التكوير ١-٥]. قوله تعالى: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ هذا يكون يوم القيامة، والتكوير: جَمْعُ الشيء بعضه إلى بعض ولفُّه كما تُكَوَّرُ العمامة على الرأس، والشمس كتلة عظيمة كبيرة واسعة في يوم القيامة يُكَوِّرُها الله عز وجل فيلفّها جميعًا ويطوي بعضها على بعض فيذهب نورها، ويلقيها في النار -عز وجل- إغاظةً للذين يعبدونها من دون الله. قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء ٩٨] أي: تُحْصَبُون في جهنم، ﴿أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ [الأنبياء ٩٨]، ويُسْتَثْنَي من ذلك مَن عُبِدَ من دون الله من أولياء الله فإنه لا يُلْقَى في النار، كما قال الله تعالى بعد هذه الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (١٠١) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ﴾ [الأنبياء ١٠١، ١٠٢]. ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾، ﴿انكدرت﴾ يعني: تساقطت كما يفسره الآية الثانية: ﴿وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ﴾ [الانفطار ٢]، فالنجوم يوم القيامة تتناثر وتزول عن أماكنها. ﴿وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ﴾، فإن هذه الجبال العظيمة الصلبة العالية الرفيعة تكون هباءً يوم القيامة وتُسَيَّرُ كما قال الله تعالى: ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا﴾ [النبأ ٢٠]. ﴿وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ﴾، ﴿الْعِشَارُ﴾ جمع عُشَرَاء، وهي الناقة الحامل التي تَمَّ لحملها عشرة أشهر، وهي من أَنْفَس الأموال عند العرب، وتجد صاحبها يَرْقُبُها ويلاحظها، ويعتني بها ويأوي إليها، ويحف بها في الدنيا، لكن في الآخرة تُعَطَّل ولا يُلْتَفَت إليها؛ لأن الإنسان في شأن عظيم مُزْعِج يُنْسِيه كل شيء، كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس ٣٤-٣٧]. ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾، ﴿الْوُحُوشُ﴾ جمع وحش، والمراد بها جميع الدواب؛ لقول الله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام ٣٨]، تُحْشَر الدوابّ يوم القيامة ويشاهدها الناس ويُقْتَصّ لبعضها من بعض، حتى إنه يُقْتَصّ للبهيمة الْجَلْحَاء التي ليس لها قرن من البهيمة القرناء، فإذا اقتُصّ من بعض هذه الوحوش لبعض أَمَرَها الله تعالى فكانت ترابًا، وإنما يفعل ذلك سبحانه وتعالى لإظهار عدله بين خلقه. ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ [التكوير ٦]، ﴿الْبِحَارُ﴾ جمع بحر، وجُمِعَت لعظمتها وكثرتها، فإنها تمثل ثلاثة أرباع الأرض تقريبًا أو أكثر، هذه البحار العظيمة إذا كان يوم القيامة فإنها تُسَجَّر، أي: تُوقَد نارًا، تشتعل نارًا عظيمة، وحينئذ تيبس الأرض ولا يبقى فيها ماء؛ لأن بحارها المياه العظيمة تُسَجَّر حتى تكون نارًا. ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ [التكوير ٧]، ﴿النُّفُوسُ﴾ جمع نفس، والمراد بها الإنسان كله، فتُزَوَّج النفوس، يعني: يُضَمّ كل صنف إلى صنفه؛ لأن الزوج يراد به الصنف، كما قال الله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً﴾ [الواقعة ٧] أي: أصنافًا ثلاثة، وقال تعالى: ﴿وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ﴾ [ص ٥٨]، أي: أصناف، وقال تعالى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ [الصافات ٢٢] أي: أصنافهم وأشكالهم. فيوم القيامة يُضَمّ كل شكل إلى مثله، أهل الخير إلى أهل الخير، وأهل الشر إلى أهل الشر، وهذه الأمة يُضَمّ بعضها إلى بعض، ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً﴾ [الجاثية ٢٨] لوحدها، ﴿كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية ٢٨]. إذن ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ يعني: شُكِّلَت وضُمّ بعضها إلى بعض، كل صنف إلى صنفه، كل أمة إلى أمتها. ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ [التكوير ٨، ٩]، ﴿الْمَوْءُودَةُ﴾ هي الأنثى تُدْفَنّ حية، وذلك أنه في الجاهلية لجهلهم وسوء ظنهم بالله، وعدم تحمُّلِهم يعيِّرُ بعضهم بعضًا إذا أتته الأنثى، فإذا ﴿بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [النحل ٥٨]: ممتلئ هَمًّا وغمًّا، ﴿يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ﴾ [النحل ٥٩] يعني: يختفي منهم، ﴿مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ﴾ [النحل ٥٩]. يعني: إذا قيل لأحدهم: نُبَشِّرُك أن الله جاء لك بأنثى، ببنت، اغتم واهتم، وامتلأ من الغم والهم، وصار يفكر هل يُبْقِي هذه الأنثى على هُونٍ وذُلّ، أو يَدُسّها في التراب ويستريح منها؟ فكان بعضهم هكذا وبعضهم هكذا؛ فمنهم –والعياذ بالله- مَن يدفن البنت وهي حية، إما قبل أن تميِّز أو بعد أن تميز، حتى إن بعضهم كان يحفِر الحفرة لبنته، فإذا أصاب لحيته شيء من التراب نفضته عن لحيته وهو يحفر لها ليدفنها، ولا يكون في قلبه لها رحمة، وهذا يدلك على أن الجاهلية أَمْرُها سَفَال، فإن الوحوش تحنو على أولادها وهي وحوش، وهؤلاء لا يَحْنُون على أولادهم. يقول عز وجل: ﴿إِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ﴾ تُسْأَل يوم القيامة. ﴿بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾، ليش قتلت؟ هل أذنبت؟ فإذا قال الإنسان: كيف تُسأل وهي المظلومة، هي المدفونة، ثم هي قد تُدْفَن وهي لا تُمَيِّز، ولم يَجْرِ عليها قلم التكليف، فكيف تُسْأَل؟ قيل: إنها تُسأل توبيخًا للذي وَأَدَهَا؛ لأنها تُسأل أمامه، فيقال: بأي ذنب قُتِلْتِ أو قُتِلَتْ؟ نظير ذلك لو أن شخصًا اعتدى على آخر في الدنيا فأتوا إلى السلطان، إلى الأمير، فقال للمظلوم: بأي شيء ضربك هذا؟ بأي ذنب ضربك هذا الرجل؟ وهو يعرف أنه معتدًى عليه ليس له ذنب، لكن من أجل التوبيخ للظالم، فالموؤودة تُسأل بأي ذنب قُتِلَتْ توبيخًا لظالمها وقاتلها ودافنها، نسأل الله العافية. ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾ [التكوير ١٠] الصحف جمع صحيفة، وهي ما يُكْتَب فيها الأعمال. واعلم أيها الإنسان أن كل عمل تعمله من قول أو فعل فإنه يُكْتَب، يسجل بصحائف على يد أُمَنَاء كرام كاتبين يعلمون ما تفعلون، يُسَجَّل كل شيء تعمله، فإذا كان يوم القيامة فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء ١٣]، يعني: عمله في عنقه، ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾ [الإسراء ١٣]: مفتوحًا، ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء ١٤]. كلامنا الآن ونحن نتكلم يُكْتَب، كلام بعضكم مع بعض يُكْتَب، كل كلام يُكْتَب، ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق ١٨]، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ»[[أخرجه الترمذي (٢٣١٨) عن علي بن الحسين رضي الله عنهما. ]]، وقال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» »[[متفق عليه؛ البخاري (٦٤٧٥)، ومسلم (٤٧/٧٤)، عن أبي هريرة رضي الله عنه. ]]؛ لأن كل شيء سيُكْتَب عليه، ومَن كثُر كَلِمُه كثُر سقطه، يعني: الذي يُكْثِر الكلام يَكْثُر منه السقط والزلات، فاحفظ لسانك؛ فإن الصحف سوف يُكْتَب فيها كل ما تقول، وسوف تُنْشَر لك يوم القيامة. ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ﴾ [التكوير ١٠، ١١] السماء فوقنا الآن، سقف محفوظ قوي شديد، قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ [الذاريات ٤٧] أي: بقوة، وقال تعالى: ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا﴾ [النبأ ١٢]، أي: قوية، في يوم القيامة تُكْشَط، يعني: تُزَال عن مكانها كما يُكْشَط الجلد عند سلخ البعير عن اللحم، يكشطها الله عز وجل ثم يطويها -جل وعلا- بيمينه، كما قال تعالى: ﴿وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر ٦٧]، ﴿كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ [الأنبياء ١٠٤]، يعني: كما يَطْوِي السجلُّ الكتبَ، يعني الكاتب إذا فرغ من كتابته طوى الورقة حفظًا لها عن التمزق وعن المحي. فالسماء تُكْشَط يوم القيامة ويبقى الأمر فضاء، إلا أن الله تعالى يقول: ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ [الحاقة ١٧]، يكون بدل السماء التي فوقنا الآن يكون الذي فوقنا هو العرش؛ لأن السماء تُطْوَى بيمين الله عز وجل، يطويها بيمينه ويهزها وكذلك الأرض باليد الأخرى ويقول: «أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنُ مُلُوكُ الدُّنْيَا؟»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٨١٢)، ومسلم (٢٧٨٧)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظه: «يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟».]]. ﴿وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ﴾ [التكوير ١٢]، ﴿الْجَحِيمُ﴾ هي النار، وسُمِّيَت بذلك لبُعْد قعرها وظلمة مرآها -نسأل الله أن ينجينا وإياكم منها-، تُسَعَّر أي: توقد، وما وقودها الذي توقد به؟ وقودها الذي توقد به قال الله عنه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم ٦]، بدل ما يُجَاء بالحطب والورق يكون الوقود الناس، يعني الكفار، والحجارة حجارة من نارٍ عظيمة، شديدة الاشتعال، شديدة الحرارة، هذا تسعير جهنم. ﴿وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ﴾ [التكوير ١٣]، الجنة دار المتقين، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ﴿أُزْلِفَتْ﴾ يعني: قُرِّبت وزُيِّنَت للمؤمنين. وانظر الفرق بين هذا وهذا؛ دار الكفار، ما يُفْعَل بها بها؟ أجيبوا، تُسَعَّر، توقد، دار المؤمنين تُزَيَّن وتقرّب، ﴿وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ﴾، كل هذا يكون يوم القيامة. إذا قرأنا هذه الآيات: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ﴾، هذه اثنتا عشرة جملة، إلى الآن لم يأتِ الجواب؛ لأن كلها في ضمن الشرط ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾، فالجواب لم يأتِ بعد، ماذا يكون إذا كانت هذه الأشياء؟ قال الله تعالى: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ﴾ [التكوير ١٤]، أي: ما قَدَّمَتْه من خير وشر، ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ﴾ [آل عمران ٣٠]، يعني: يكون مُحْضَرًا أيضًا، ﴿تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ [آل عمران ٣٠]، فتعلم في ذلك اليوم كلُّ نفس ما أحضرت من خير أو شر. في الدنيا نعلم ما نعمل من خير وشر، لكن سرعان ما ننسى، مَن يتذكر الآن ما عمله مما سبق منذ جرى عليه قلم التكليف؟ إنا نسينا الشيء الكثير، لا من الطاعات ولا من المعاصي، لكن هل تظنون أن هذا ذهب سُدًى كما نسيناه؟ لا والله، هو باقٍ، فإذا كان يوم القيامة أحضرته أنت بإقرارك على نفسك بأنك عملته. ولهذا قال تعالى: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ﴾ [التكوير ١٤]، فينبغي بل يجب على الإنسان أن يتأمل في هذه الآيات العظيمة، وأن يَتَّعِظ بما فيها من المواعظ، وأن يؤمن بها كأنه يراها رَأْيَ عين؛ لأن ما أَخْبَرَ الله به وعلمنا مدلوله فإنه أشد يقينًا عندنا مما شاهدناه بأعيننا أو سمعناه بأذاننا؛ لأن خبر الله لا يُفْلِت، صدق. لكن ما نراه أو نسمعه كثيرًا ما يقع فيه الوهم، قد ترى الشيء البعيد شبحًا تُعَيِّنُه بتصورك وهو خلاف الواقع، وقد تسمع الصوت فتظنه شيئًا معينًا في ذهنك وهو خلاف الواقع، فالوهم يَرِدُ على الحواس لكن خبر الله عز وجل إذا عُلِمَ مدلوله لا يمكن أبدًا أن يَرِدَ عليه شيء من الوهم؛ لأنه خبرُ صدق. فهذه الأمور التي ذكر الله في هذه الآيات أمور حقيقية، يجب أن تؤمن بها كأنك تراها رأي عين، ثم بعد الإيمان بها يجب أن تعمل بمقتضى ما تدل عليه من الاتعاظ والانزجار، والقيام بالواجب، وتَرْك المنهيات، حتى تكون من أهل القرآن الذين يتلونه حق تلاوته، جعلني الله وإياكم منهم بِمَنِّه وكرمه، إنه على كل شيء قدير.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب