الباحث القرآني
مقرر في كل يوم خميس -نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلها لقاءات مباركة- نبتدئ هذا اللقاء بتفسير آيات من كتاب الله عز وجل، وقد بدأنا من سورة النبأ إلى آخر القرآن، ونحن الآن على قوله تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (٢٧) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا﴾ [النازعات ٢٧، ٢٨]، إلى آخره.
يخاطب الله سبحانه وتعالى عباده، يقول: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ﴾، وأراد بهذا الاستفهام تقرير إمكان البعث؛لأن المشركين كذَّبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبعث، وقالوا: ﴿مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [يس ٧٨]، فيقول الله عز وجل: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ﴾؟
الجواب معلوم لكل أحد أنه السماء، كما قال تعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [غافر ٥٧].
﴿بَنَاهَا﴾ هذه الجملة لا تتعلق بالتي قبلها، ولهذا ينبغي للقارئ إذا قرأ أن يقف على قوله: ﴿أَمِ السَّمَاءُ﴾، ثم يستأنف فيقول: ﴿بَنَاهَا﴾، فالجملة استئنافية لبيان عظمة السماء.
﴿بَنَاهَا﴾ أي: بناها الله عز وجل، وقد بَيَّنَ الله سبحانه وتعالى في آية أخرى في سورة الذاريات أنه بناها بقوة، فقال: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ [الذاريات ٤٧] أي: بقوة، ﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات ٤٧].
﴿رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا﴾ [النازعات ٢٨] رفعه يعني: عن الأرض، ورفعه عز وجل بغير عَمَدٍ، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ [الرعد ٢].
﴿فَسَوَّاهَا﴾ أي: جعلها مستوية، وجعلها تامَّة كاملة، كما قال تعالى في خلق الإنسان: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ﴾ [الانفطار ٦، ٧]، أي: جعلك سَوِيًّا تامّ الخِلْقَة، فالسماء كذلك سَوَّاهَا الله عز وجل.
﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾ [النازعات ٢٩] أغطشه، أي: أَظْلَمَه، فالليل مُظْلِم، قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾ [الإسراء ١٢].
﴿وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾: بيَّنَه بالشمس التي تخرج كل يوم من مطلعها وتغيب في مغربها.
﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (٣٠) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (٣١) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (٣٢) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ [النازعات ٣٠-٣٣]، ﴿الْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ﴾ أي: بعد خلق السماوات والأرض.
﴿دَحَاهَا﴾ وبيّن هذا الدَّحْوَ بقوله: ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (٣١) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا﴾، وكانت الأرض مخلوقة قبل السماء، كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (١١) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾ [فصلت ٩-١٢]، فالأرض مخلوقة من قبل السماء، لكنّ دَحْوَهَا وإخراج الماء منها والمرعى كان بعد خلق السماوات.
﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (٣١) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا﴾ أي: جعلها راسية في الأرض تُمْسِكُ الأرض لئلا تضطرب بالخلق.
﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ أي: جعل الله تعالى ذلك متاعًا لنا نتمتع به فيما نأكل ونشرب، ولأنعامنا أي: مواشينا من الإبل والبقر والغنم وغيرها، ولما ذَكَّر الله عز وجل عباده بهذه النعم الدالة على كمال قدرته ذَكَّرَهم بمآلهم الحتمي الذي لا بد منه، فقال عز وجل: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى﴾، وذلك قيام الساعة، وسَمَّاهَا طامَّة؛ لأنها داهية عظيمة تَطُمّ كل شيء سبقها، (كبرى) يعني: أكبر من كل طامة.
﴿فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى﴾ [النازعات ٣٤، ٣٥] بيان لهذا اليوم الذي تكون فيه الطامة الكبرى، وهو اليوم الذي يتذكر فيه الإنسان ما سعى، كيف يتذكره؟ يتذكره مكتوبًا، مكتوبًا عنده يقرؤه هو بنفسه، قال الله تعالى: ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (١٣) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء ١٣، ١٤]، إذا قرأه تذَكَّر ما سعى، أي: ما عمل، أما اليوم فإننا قد نسينا ما عملنا، عملنا أعمالًا كثيرة، منها الصالح، ومنها اللغو، ومنها السيئ، لكن كل هذا ننساه، في يوم القيامة يُعْرَض علينا هذا في كتاب، ويقال: اقرأ كتابك أنت بنفسك، ﴿كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾، فحينئذ يتذكر ما سعى. ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾ [النبأ ٤٠].
ثم قال: ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى﴾ [النازعات ٣٦] -أعاذنا الله وإياكم منها- ﴿بُرِّزَتِ﴾: أُظْهِرَت، تجيء تُقَادُ بسبعين ألف زمام، كل زمام فيه سبعون ألف مَلَك يقودونها، إذا أُلْقِيَ منها الظالمون مكانًا ضيقًا مُقَرَّنِين دَعَوْا هنالك ثبورًا، تأتي -والعياذ بالله- لمن يرى ويُبْصِر، فتنخلع القلوب ويشيب المولود.
ولهذا قال: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى (٣٧) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات ٣٧-٣٩]، هذان وصفان هما وصفان لأهل النار؛ الطغيان وهو مجاوزة الحد، وإيثار الدنيا على الآخرة بتقديمها على الآخرة، وكونها أكبر هَمّ الإنسان.
فإذا قال قائل: ما هو الطغيان؟ قلنا: الطغيان مجاوزة الحد، كما ذكرناه آنفًا، مجاوزة الحد بماذا؟ ما هو حد الإنسان؟ حد الإنسان مذكور في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات ٥٦]، فمن جاوز حَدَّهُ ولم يعبد الله فهذا هو الطاغي، هذا هو الطاغي؛ لأنه تجاوز الحد، أنت مخلوق لا لتأكل وتتنعم وتتمتع كما يتمتع الأنعام، أنت مخلوق لعبادة الله، فاعبد الله عز وجل، فإن لم تفعل فقد طغيت، هذا هو الطغيان؛ ألَّا يقوم الإنسان بعبادة الله.
وقوله ﴿وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ هما متلازمان، فإن الطاغي عن عبادة الله مُؤْثِرٌ للحياة الدنيا؛ لأنه يتعلَّل بها عن طاعة الله، يتلهى بها عن طاعة الله، إذا أَذَّنَ الفجر آثَرَ النوم على الصلاة، إذا قيل له: اذكر الله، آثَرَ اللغو على ذِكْر الله، وهكذا.
وقوله: ﴿فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ أي: هي مأواه، والمأوى هو الْمَرْجِع والْمَقَرّ، وبئس المقر مقر جهنم-أعاذنا الله وإياكم منها-.
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ [النازعات ٤٠] يعني: خاف القيام بين يديه؛ لأن الإنسان يوم القيامة سوف يُقَرِّرُه الله عز وجل بذنوبه، ويقول: عملت كذا، عملت كذا، عملت كذا، كما جاء في الحديث الصحيح، فإذا أَقَرَّ قال الله له: «قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٤٤١)، ومسلم (٢٧٦٨/٥٢)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.]]، هذا الذي خاف هذا المقام.
﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾ [النازعات ٤٠] أي: عن هواها، والنفس أمَّارة بالسوء، لا تأمر إلا بالشر، ولكن هناك نفس أخرى تقابلها، وهي النفس المطمئنة؛ لأن للإنسان ثلاث نفوس: مطمئنة، وأمَّارة، ولوَّامَة، وكلها في القرآن.
أما المطمئنة ففي قوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [الفجر ٢٧-٣٠].
وأما الأمَّارة بالسوء ففي قوله تعالى: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾ [يوسف ٥٣].
وأما اللوامة ففي قوله تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (١) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ [القيامة ١، ٢].
والإنسان يُحِسّ بنفسه بهذه الأنفس، يرى في نفسه أحيانًا نزعةَ خيرٍ، يحب الخير، يفعله، هذه هي النفس المطمئنة، يرى أحيانًا في نفسه نزعة شر يفعله، هذه نفس أَمَّارَة بالسوء، تأتي بعد ذلك النفس اللَّوَّامَة التي تلومه على ما فعل، فتجده يندم على ما فعل من المعصية، أو لَوَّامَة أخرى تلومه على ما فعل من الخير -والعياذ بالله- فإن من الناس مَن قد يلوم نفسه على فعل الخير، وعلى مصاحبة أهل الخير، ويقول: كيف أصاحب هؤلاء الذين صَدُّونِي عن حياتي، عن شهواتي، عن لهوي، وما أشبه ذلك.
فاللَّوَّامَة نفس تلوم الأمارة بالسوء مرة، وتلوم المطمئنة مرة أخرى، فهي في الحقيقة نفس بين نَفْسَيْن؛ تلوم النفس الأمارة بالسوء إذا فعلت السوء، وتُنَدِّم الإنسان، قد تلوم النفس المطمئنة إذا فعلت الخير -نسأل الله العافية-.
يقول الله عز وجل: ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات ٤٠، ٤١]، الجنة هي دار النعيم التي أَعَدَّهَا الله عز وجل لأوليائه فيها ما لا عين رأت، ولا أُذُن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال الله تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة ١٧]، هكذا جاء في القرآن، وجاء في الحديث القدسي: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٢٤٤)، ومسلم (٢٨٢٤/٢)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.]]، هذه الجنة يُدْرِكُها الإنسان قبل أن يموت، كيف ذلك؟ إذا حضر الأجل ودعت الملائكة النفسَ للخروج قالت: اخرجي أيتها النفس المطمئنة إلى رضوان الله، وتبشر النفس بالجنة، قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ﴾ [النحل ٣٢]، متى يقولونه؟ حين التوفي، ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل ٣٢].
فيُبَشَّر بالجنة فتخرج روحه راضية مُتَيَسِّرة سهلة، ولهذا لما حَدَّثَ النبي عليه الصلاة والسلام فقال: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ»، قالت عائشة: يا رسول الله، كلنا يكره الموت، قال: «لَيْسَ الْأَمْرُ ذَلِكَ»، » كلنا يكره الموت بمقتضى الطبيعة، «وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا بُشِّرَ بِمَا يُبَشَّرُ بِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ»[[أخرجه البخاري (٦٥٠٧) عن عبادة بن الصامت، ومسلم (٢٦٨٤/١٥) عن عائشة رضي الله عنهما. ]]، أحب الموت وسَهُل عليه، وإن الكافر إذا بُشِّر-والعياذ بالله- بما يسوؤه عند الموت كره لقاء الله، وهربت نفسه، تَفَرَّقَت في جسده حتى ينتزعوها منه كما يُنْتَزَع السَّفُّود من الشعر المبلول، والشعر المبلول إذا جُرَّ عليه السفود، وهو معروف عند الغَزَّالين، يكاد يمزقه من شدة سحبه عليه، هكذا روح الكافر -والعياذ بالله- تتفرق في جسده؛ لأنها تُبَشَّر بالعذاب فتخاف، ولهذا يوجد بعض الناس -والعياذ بالله- يَسْوَدُّ وجهه، ولونه في الحياة أحمر، وحَدَّثَنِي مَن أثق به، وأقسم لي أكثر من مرة، وهو ممن يباشرون تغسيل الموتى، يقول: والله مَرَّت عَلَيَّ حالتان لا أنساهما أبدًا، يقول: غسَّلت اثنين لكن بينهما زمن، يقول: الوجه أسود والبدن طبيعي، أسود يقول: مثل الفحم -والعياذ بالله-أثنيه يقول: أنا أشهد، لأنه يُبَشَّر بما يسوؤه -والعياذ بالله- والإنسان إذا بُشِّرَ بما يسوؤه تَغَيَّر.
فالجنة -اللهم إنا نسألك أن نكون من أهلها جميعًا- الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أُذُن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وقلت لكم: إن الإنسان قد يدركها قبل أن يموت بما يُبَشَّر به.
ولا يخفى علينا ما جاء في السيرة النبوية أن أنس بن النضر-أظنه أنس بن النضر-رضي الله عنه قال: يا رسول الله، والله إني لَأَجِدُ ريح الجنة دون أحد، وهذا ليس معناه الوجدان الذَّوْقِي، وجدان حقيقي، قال ابن القيم رحمه الله: إن بعض الناس قد يُدْرِك الآخرة وهو في الدنيا. ثم انطلق فقاتَل وقُتِل رضي الله عنه.
فالحاصل أن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أُذُن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (٤١) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾ [النازعات ٤١، ٤٢].
﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ يعني: يسألك الناس، كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الأحزاب ٦٣]، سؤال الناس عن الساعة ينقسم إلى قسمين:
سؤال استبعاد وإنكار، وهذا كفر، كما سأل المشركون النبيَّ ﷺ عن الساعة واستعجلوها، وقد قال الله عن هؤلاء: ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ﴾ [الشورى ١٨].
وسؤال عن الساعة، يسأل: متى الساعة؛ ليستعد لها، وهذا لا بأس به، وقد «قال رجل للنبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله متى الساعة؟ قال له: «مَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟»، قال: حُبَّ الله ورسوله، قال: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»[[أخرجه بهذا اللفظ الترمذي (٢٣٨٥) عن أنس، والحديث متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٣٦٨٨)، ومسلم (٢٦٣٩/ ١٦١)، عن أنس رضي الله عنه، ولفظه: أن رجلًا سأل النبي ﷺ عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال: «وماذا أعددت لها». قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله ﷺ، فقال: «أنت مع من أحببت». قال أنس: فما فَرِحْنَا بشيء فَرَحَنَا بقول النبي ﷺ: «أنت مع من أحببت». ]].
فالناس يسألون النبي عليه الصلاة والسلام ولكن تختلف نياتهم في هذا السؤال، إنما مهما كانت نياتهم، ومهما كانت أسئلتهم، علم الساعة عند الله، ولهذا قال: ﴿فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا﴾ [النازعات ٤٣] يعني أنه لا يمكن أن تذكر لهم الساعة، لماذا؟ لأن علمها عند الله كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الأعراف ١٨٧].
وقد سأل جبريل -وهو أعلم الرسل- سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو أعلم الخلق من البشر، «قال: أخبرني عن الساعة، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٠)، ومسلم (٩/٥)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.]]، يعني: أنت إذا كانت خافية عليك فأنا خافية عليّ، وإذا كان أعلم الملائكة وأعلم البشر لا يعلمان متى الساعة فما بالك بِمَن دونهما، وبهذا نعرف أن ما يُشِيعُه بعض الناس من أن الساعة تكون في كذا وفي كذا وفي زمن معيَّن كله كذب، نعلم أنهم كَذَبَة في ذلك؛ لأنهم لا يعلمون متى الساعة، لا يعلمها إلا الله عز وجل.
﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ [النازعات ٤٥] يعني: ليس عندك علم منها، ولكنك مُنْذِر، مُنْذِر مَن؟ ﴿يَخْشَاهَا﴾ أي: يخافها، وهم المؤمنون، أما مَن أنكرها واستبعدها وكذَّبها فإن الإنذار لا ينفع فيه، ﴿وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس ١٠١].
ولهذا نقول: أنت لا تسأل متى تموت، ولا أين تموت؛ لأن هذا أمر لا يحتاج إلى السؤال، أمر مفروغ منه، ولابد أن يكون، ومهما طالت بك الدنيا فكأنما بقيت يومًا واحدًا، بل كما قال تعالى هنا: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾ [النازعات ٤٦].
ولكن السؤال الذي يجب أن يَرِدَ على النفس، ويجب أن يكون لديك جواب عليه هو: على أي حال تموت؟! وأريد بقولي: على أي حال، لست أريد: هل أنت غني أو فقير، أو قوي أو ضعيف، أو ذو عيال أو عقيم، لا، على أي حال تموت في العمل، هذه النقطة.
فإذا كنت تسائل نفسك هذا السؤال فلا بد أن تستعد، لا بد أن تستعد؛ لأنك لا تدري متى يَفْجَؤُك الموت، كم من إنسان خرج يقود سيارته ورُجِعَ به محمولًا على الأكتاف، وكم من إنسان خرج من أهله يقول: هَيِّئُوا لي الطعام الغداء أو العشاء، ولكن لم يأكله، وكم من إنسان لبس قميصه وزَرَّ أَزِرَّتَه ولم يَفُكَّها إلا الغاسل يُغَسِّله، هذا أمر مشاهَد بحوادث بغتة، أي حال يكون.
أنت انظر الآن وفَكِّر على أي حال تموت-نسأل الله أن يرزقني وإياكم التوبة والإنابة- ولهذا ينبغي لك أن تُكْثِر من الاستغفار، أكثر من الاستغفار ما استطعت؛ فإن الاستغفار فيه من كل هَمٍّ فَرَج، ومن كل ضيق مَخْرَج، حتى إن بعض العلماء يقول: إذا استفتاك شخص فاسْتَغْفِر اللهَ قبل أن تُفْتِيَه؛ لأن الذنوب تَحُول بين الإنسان وبين الهدى، واسْتَنْبَط ذلك من قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ﴾ [النساء ١٠٥، ١٠٦]، ﴿لِتَحْكُمَ﴾ ﴿اسْتَغْفِرِ اللَّهَ﴾، ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء ١٠٦].
وهذا استنباط جيد، ويمكن أيضًا أن يُسْتَنْبَط من قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمد ١٧]، والاستغفار من الهدى، لذلك أُوصِي نفسي وإياكم بالمراقبة، وكثرة الاستغفار، ومحاسبة النفس حتى نكون على أهبة الاستعداد لما نخشى أن يَفْجَأَنَا من الموت-نسأل الله أن يُحْسِن لنا ولكم الخاتمة-.
قال الله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا﴾ [النازعات ٤٦] أي: يرون القيامة، ﴿لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾ [النازعات ٤٦]، العشية من الزوال إلى غروب الشمس، والضحى من طلوع الشمس إلى زوال الشمس، يعني: كأنهم لم يلبثوا إلا نصف يوم، وهذا هو الواقع، لو سألتكم الآن: كيف ما مضى من السنوات عليكم؟ هل تشعرون الآن بأنه سنوات، أو كأنه يوم واحد؟ كأنه يوم واحد، لا شك، والإنسان الآن بين ثلاثة أشياء: يوم مضى فهذا قد فاته، ويوم مستقبل لا يدري أيُدْرِكُه أو لا يدركه، ووقت حاضر هو المسؤول عنه، الوقت الحاضر، أما ما مضى فقد فات، وما فات فقد مات، هلك عنك، اللي مضى هلك عنك، والمستقبل لا تدري أتدركه أم لا، والحاضر هو الذي أنت مسؤول عنه.
نسأل الله تعالى أن يُحْسِن لي ولكم العاقبة، وأن يجعل عاقبتنا حميدة، وخاتمتنا سعيدة، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{"ayahs_start":27,"ayahs":["ءَأَنتُمۡ أَشَدُّ خَلۡقًا أَمِ ٱلسَّمَاۤءُۚ بَنَىٰهَا","رَفَعَ سَمۡكَهَا فَسَوَّىٰهَا","وَأَغۡطَشَ لَیۡلَهَا وَأَخۡرَجَ ضُحَىٰهَا","وَٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ ذَ ٰلِكَ دَحَىٰهَاۤ","أَخۡرَجَ مِنۡهَا مَاۤءَهَا وَمَرۡعَىٰهَا","وَٱلۡجِبَالَ أَرۡسَىٰهَا","مَتَـٰعࣰا لَّكُمۡ وَلِأَنۡعَـٰمِكُمۡ","فَإِذَا جَاۤءَتِ ٱلطَّاۤمَّةُ ٱلۡكُبۡرَىٰ","یَوۡمَ یَتَذَكَّرُ ٱلۡإِنسَـٰنُ مَا سَعَىٰ","وَبُرِّزَتِ ٱلۡجَحِیمُ لِمَن یَرَىٰ","فَأَمَّا مَن طَغَىٰ","وَءَاثَرَ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا","فَإِنَّ ٱلۡجَحِیمَ هِیَ ٱلۡمَأۡوَىٰ","وَأَمَّا مَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفۡسَ عَنِ ٱلۡهَوَىٰ","فَإِنَّ ٱلۡجَنَّةَ هِیَ ٱلۡمَأۡوَىٰ","یَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَیَّانَ مُرۡسَىٰهَا","فِیمَ أَنتَ مِن ذِكۡرَىٰهَاۤ","إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَىٰهَاۤ","إِنَّمَاۤ أَنتَ مُنذِرُ مَن یَخۡشَىٰهَا","كَأَنَّهُمۡ یَوۡمَ یَرَوۡنَهَا لَمۡ یَلۡبَثُوۤا۟ إِلَّا عَشِیَّةً أَوۡ ضُحَىٰهَا"],"ayah":"وَبُرِّزَتِ ٱلۡجَحِیمُ لِمَن یَرَىٰ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق