الباحث القرآني

في كلامنا هذا، أو في مبدأ لقائنا هذا نتكلم عن بقية الآيات في سورة النازعات عند قوله تعالى مخاطبًا موسى صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾، فأَمَرَ الله نبيه موسى أن يذهب إلى فرعون، وهذا هو الرسالة، وبيَّن سبب ذلك، وهو طغيان هذا الرجل -أعني فرعون- وفي سورة طه قال: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ [طه ٤٣]، ولا منافاة بين الآيتين؛ وذلك أن الله تعالى أرسل موسى أولًا، ثم طلب موسى صلى الله عليه وآله وسلم من ربه أن يشد أَزْرَه بأخيه هارون، فأرسل هارون مع موسى، فصار موسى وهارون كلاهما مُرْسَل إلى فرعون. وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ طَغَى﴾ أي: زاد على حَدِّه؛ لأن الطغيان هو الزيادة، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾ [الحاقة ١١]، ﴿طَغَى﴾ أي: زاد، ومنه الطاغوت؛ لأن فيه مجاوزة الحد. فهنا يقول الله عز وجل: ﴿إِنَّهُ طَغَى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى﴾، الاستفهام هنا للتشويق، تشويق فرعون أن يتزكى مما هو عليه من الشر والفساد، وأصل الزكاة النمو والزيادة، وتُطْلَق بمعنى الإسلام والتوحيد، ومنه قوله تعالى: ﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ [فصلت ٦، ٧]، ومنه قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس ٩، ١٠]. ﴿هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾ [النازعات ١٨، ١٩] أي: أدلك إلى ربك، أي: إلى دين الله عز وجل الْمُوصِل إلى الله. ﴿فَتَخْشَى﴾ أي: فتخاف الله عز وجل على علمٍ منك؛ لأن الخشية هي الخوف المقرون بالعلم، فإن لم يكن علم فهو خوف مجرَّد، وهذا هو الفرق بين الخشية والخوف؛ الفرق بينهما أن الخشية عن علم، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر ٢٨]، وأما الخوف فهو خوف مجرَّد، ذُعْرٌ يحصل للإنسان ولو بلا علم، ولهذا قد يخاف الإنسان من شيء يتوهَّمه، قد يرى في الليلة الظلماء شبحًا لا حقيقة له فيخاف منه، فهذا ذعر مبني على وهم، لكن الخشية تكون عن علم، ﴿وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾. ﴿فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى﴾ [النازعات ٢٠] أي: فذهب موسى عليه الصلاة والسلام وقال لفرعون ما أمره الله به، ﴿هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾، ولَمَّا كان البشر لا يؤمنون ولا يقبلون دعوى شخص أنه رسول إلا بآية، كما هو ظاهر أن الإنسان لا يقبل من أحد دعوى إلا ببينة، جعل الله سبحانه وتعالى مع كل رسول آية تدل على صدقه، وهنا قال: ﴿فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى﴾ يعني: أرى موسى فرعون الآية الكبرى، فما هي هذه الآية؟ الآية أن معه عصًا من خشب من فروع الشجر كما هو معروف، فكان إذا وضعها في الأرض صارت حية تسعى، ثم يحملها فتعود عصا، وهذا من آيات الله؛ أن شيئًا جمادًا إذا وُضِعَ على الأرض صار حية تسعى، وإذا حُمِلَ من الأرض عاد في الحال فورًا إلى حاله الأولى وهي أنه عصا من جملة العصيان. ﴿فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى﴾، وإنما بعثه عليه الصلاة والسلام بهذه الآية، وبكونه يُدْخِل يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء، أي: من غير عيب، أي: بيضاء بياضًا ليس بياض البرص، ولكنه بياض جعله الله آية، إنما بعثه الله بذلك -بالعصا واليد- لأنه كان في زمن موسى السحرُ منتشرًا شائعًا، فأرسله الله عز وجل بشيء يشبه السحر، لكنه ليس بسحر حقيقة، من أجل أن يغلب السحرة الذين تصدَّوْا لموسى عليه الصلاة والسلام. قال أهل العلم: وفي عهد عيسى صلى الله عليه وآله وسلم انتشر الطب انتشارًا عظيمًا، فجاء عيسى بأمر يُعْجِز الأطباء، وهو أنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا بَرَأَ، إذا جِيءَ إليه بشخص فيه عاهة، أي عاهة تكون، مَسَحَهُ بيده ثم برأ بإذن الله، يبرئ الأَكْمَه والأبرص، مع أن البرص لا دواء له، لكن هو يبرئ الأبرص بإذن الله عز وجل، ويبرئ الأكمه الذي خُلِقَ بلا عيون يبرئه، أشد من هذا وأعظم أنه يحيي الموتى بإذن الله، يؤتَى إليه بالميِّت فيتكلم معه ثم تعود إليه الحياة، وأشد من ذلك وأبلغ أنه يُخْرِج الموتى بإذن الله، يخرجهم من أي مكان؟ من قبورهم، يقف على القبر وينادي صاحبَ القبر فيخرج من القبر حيًّا، هذا شيء لا يمكن لأي طب أن يبلغه، ولهذا كانت آية عيسى في هذا الوقت مناسبة تمامًا لما كان عليه الناس. قال أهل العلم: أما رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد أتى إلى العرب وهم يتفاخرون في الفصاحة، ويرون أن الفصاحة أعظم مَنْقَبَةٍ للإنسان، فجاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذا القرآن العظيم الذي أعجز أمراء الفصاحة، وعجزوا عن أن يأتوا بمثله، قال الله تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء ٨٨]، يعني: ولو كان بعضهم يعاون بعضًا فإنهم لن يأتوا بمثله. حينئذ نقول: إن موسى عليه الصلاة والسلام أرى فرعونَ الآية الكبرى، ولكن هل انتفع بالآيات؟ لا، ﴿وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس ١٠١]، ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾ [يس ١١]، فالذين ليس في قلوبهم استعداد للهداية لا يهتدون ولو جاءتهم كل آية -والعياذ بالله- ولهذا قال: ﴿فَكَذَّبَ وَعَصَى﴾ [النازعات ٢١] : كَذَّبَ الخبر، وعصى الأمر، يعني: قال لموسى: إنك لست رسولًا، بل قال: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ [الشعراء ٢٧]، وعصى الأمر، فلم يمتثل أمر موسى ولم يَنْقَدْ لشرعه. ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى﴾ [النازعات ٢٢]، ﴿أَدْبَرَ﴾ أي: تولى مُدْبِرًا يسعى حثيثًا. ﴿فَحَشَرَ فَنَادَى﴾ [النازعات ٢٣]، حشر الناس أي: جمعهم، ونادى فيهم بصوت مرتفع ليكون ذلك أبلغ في نهيهم عما يريد منهم موسى عليه الصلاة والسلام. ﴿فَحَشَرَ فَنَادَى (٢٣) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ [النازعات ٢٣، ٢٤] -والعياذ بالله- قال لقومه: أنا ربكم الأعلى، يعني لا أحد فوقي؛ لأن (الأعلى) هذه اسم تفضيل من العلوّ، فانظر كيف استكبر هذا الرجل، وادَّعَى لنفسه ما ليس له في قوله: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾، وكان يفتخر بالأنهار والْمُلك الواسع، يقول لقومه فيما قال لهم؛ لأنه قال لهم أقوالًا كثيرة: ﴿يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ﴾ [الزخرف ٥١، ٥٢]. فما الذي حصل؟ أغرقه الله عز وجل بالماء الذي كان يفتخر به، وأورث الله ملك مصر بني إسرائيل الذين كان يستضعفهم. قال الله تعالى: ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى﴾ [النازعات ٢٥] أخذه الله تعالى أَخْذَ عزيز مقتدر، ﴿نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى﴾ يعني: أنه نكَّل به في الآخرة وفي الأولى، فكان عبرة في زمنه، وعبرة فيما بعد زمنه إلى يوم القيامة، كل مَن قَرَأَ كتاب الله وما صنع الله بفرعون فإنه يتَّخِذُ ذلك عبرة يعتبر به، وكيف أهلكه الله مع هذا الملك العظيم، وهذا الجبروت وهذا الطغيان، فصار أهون على الله تعالى من كل هين. يقول الله عز وجل: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ [النازعات ٢٦]، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ أي: فيما جرى من إرسال موسى إلى فرعون، ومحاورته إياه، واستهتار فرعون به، واستكباره عن الانقياد له عبرة، عبرة لمن؟ ﴿لِمَنْ يَخْشَى﴾ أي: يخشى الله عز وجل، فمن كان عنده خشية من الله وتدبَّرَ ما حصل لموسى مع فرعون، والنتيجة التي كانت لهذا ولهذا، فإنه يعتبر، يأخذ من ذلك عبرة، والعِبَر في قصة موسى كثيرة، ولو أن أحدًا منكم انتدب ليجمع القصة من الآيات في كل سورة ثم يستنتج ما حصل في هذه القصة من العِبَر لكان جيدًا، فهل منكم أحد يقوم بذلك؟ * طالب: ليكن بعد أيام إن شاء الله. * الشيخ: نعم، لك خمسة عشر يومًا، على كل حال إن وجدنا أحدًا قبلك فهو أحق، وإلا فهو لك. اللي يأتي الأول فهو السابق. * طالب: يجمع العِبَر يا شيخ؟ * الشيخ: إي، يعني يأتي بالقصة كلها في كل الآيات؛ لأن السور في بعضها شيء ليس في البعض الآخر، فإذا جمعها وقال –مثلًا-: يؤخَذ من هذه القصة العظيمة العِبَر التالية، ثم يسردها، يعني: ما هو لازم الأحكام الشرعية الفقهية هذه ما أريدها منكم؛ لأن هذه يمكن تطول، لكن العبر؛ كيف أرسلهم الله عز وجل إلى فرعون؟ كيف قال لهما: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا﴾ [طه ٤٤] مع أنه مستكبر خبيث؟ وكيف كانت النتيجة؟ وكيف كان موسى عليه الصلاة والسلام خرج من مصر خائفًا على نفسه يترقب، كما خرج الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة يترقب، وصارت النتيجة العاقبة للرسول عليه الصلاة والسلام ولموسى، لكن العاقبة للرسول بفعل الرسول وأصحابه، عذَّب الله أعداءهم بأيديهم، وعاقبة موسى بفعل الله عز وجل، يعني يجيب الإنسان عِبَرًا من هذا، ما أريد أحكامًا فقهية، لا، أريد عِبَرًا يعتبر بها الإنسان يُصْلِحُ بها نفسه وقلبه حتى يتبين الأمر. على كل حال ذِكْر كلام العلماء طيب؛ لأن كلام العلماء يستعان بها على فَهْم المعنى، ونقف على قوله تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾ [النازعات ٢٧]، وأظن تكلَّمْنَا عليها، لكن لا مانع، على كل حال طيب، التكرار لا بأس به إذا كان فيه فائدة. وإلى هنا تنتهي هذه الكلمات التي أسأل الله عز وجل أن يجعلها خالصة له نافعة لنا جميعًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب