الباحث القرآني
درسنا في هذا اليوم هو أول سورة النازعات.
قال الله عز وجل: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (١) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (٢) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (٣) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (٤) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾ [النازعات ١-٥].
البسملة آية من كتاب الله مستقلة، لا تتبع السورة التي قبلها ولا التي بعدها، ولهذا كان القول الراجح أن البسملة ليست من الفاتحة، بل هي مستقلة، ودليل ذلك حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين أن الله قال: «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَإِذَا قَالَ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي»[[أخرجه مسلم (٣٩٥/٣٨) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ]]، وذكر تمام الحديث.
كما أنها أيضًا ليست آية من السور الأخرى، وما نشاهده في المصحف من جَعْلِها آية في الفاتحة دون غيرها إنما هو على رأي بعض العلماء، ولكن الصواب ما ذكرت لكم؛ أنها آية مستقلة، ولهذا لو اقتصر الإنسان في سورة الفاتحة على قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة ٢] إلى آخر السورة لكانت صلاته صحيحة.
إلا أنها لا توجد في أول سورة براءة، وسبب ذلك أنه لم ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين السورتين آية البسملة، فلذلك لم تكن موجودة.
وأما تعليل بعض العلماء بأنها - أي سورة براءة- نزلت بالسيف، فإنه تعليل عليل لا يصح؛ لأن السيف إذا كان بحق فهو حق ولا يضر.
يقول الله عز وجل: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (١) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (٢) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (٣) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (٤) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾ كل هذه الأوصاف للملائكة على حسب أعمالهم التي أمرهم الله عز وجل بها، فقوله: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا﴾ يعني الملائكة الْمُوَكَّلَة بقَبْض أرواح الكفار، تنزعها ﴿غَرْقًا﴾ أي: نزعًا بشدة.
﴿وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا﴾ يعني: الملائكة الْمُوَكَّلة بقبض أرواح المؤمنين، تنشطها نشطًا، أي: تَسُلُّها برفق كالأُنْشُوطة، وأظنكم تعرفون الأنشوطة: الرَّبْط الذي يسمونه عندنا (التكة) أو ما أشبه ذلك من الكلمات، يعني يكون ربطًا، بحيث إذا سَلَلْتَ أحد الطرفين انفكت العقدة، هذا ينحل بسرعة وبسهولة.
فهؤلاء الملائكة الْمُوَكَّلَة بقبض أرواح المؤمنين تنشطها نشطًا، أي: تَسُلُّها برفق، وسبب ذلك أن الملائكة الْمُوَكَّلَة بقبض أرواح الكفار إذا دَعَت الروح إلى الخروج تناديها بأقبح الأوصاف، تقول الملائكة لروح الكافر: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي إلى غضب الله، وما أشبه هذا من الكلام، فتنفر الروح، لا تريد أن تخرج إلى هذا، وتتفرق في الجسد -والعياذ بالله- حتى يقبضوها بشدة، ينزعونها نزعًا، يكاد يتمزق الجسد منها من شدة النزع.
أما أرواح المؤمنين -جعلني الله وإياكم منهم- فإن الملائكة إذا نَزَلَتْ لقبضها تبشرها: اخرجي أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي إلى رضوان الله، وما أشبه هذا من الكلام الذي يُهَوِّن عليها أن تفارق جسدها الذي أَلِفَتْه، فتخرج بسهولة.
ولهذا لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ». قالت عائشة: يا رسول الله، كُلُّنَا يكره الموت، فقال: «لَيْسَ الْأَمْرُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ » -يعني إذا جاءه أجله-«يُبَشَّرُ بِرَحْمَةٍ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ فَيُحِبُّ لِقَاءَ اللهِ»[[أخرجه البخاري (٦٥٠٧) عن عبادة بن الصامت، ومسلم (٢٦٨٤/١٥) عن عائشة رضي الله عنهما. ]]؛ لأنه في تلك اللحظة يرى أنه سينتقل إلى دار أحسن من الدار التي فارقها، فيفرح كما يفرح أحدنا إذا قيل له: اخرج من بيت الطين إلى بيت المسلَّح القصر المشيد الطيِّب، فيفرح فيحب لقاء الله.
والكافر -والعياذ بالله- بالعكس، إذا بُشِّرَ بالغضب والعذاب فإنه يكره أن يموت، يكره لقاء الله فيكره الله لقاءه.
إذن ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا﴾ هي من؟ الملائكة التي تنزع أرواح الكفار تنزعها بشدة، ﴿وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا﴾: الملائكة التي تقبض أرواح المؤمنين بسهولة ويسر.
﴿فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا﴾ أيضًا هي الملائكة تسبق إلى أمر الله عز وجل، ولهذا كانت الملائكة أسبق إلى أمر الله وأَقْوَمَ بأمر الله من بني آدم، قال الله تعالى في وصف ملائكة النار: ﴿عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم ٦]، وقال عز وجل: ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء ١٩، ٢٠]، فهم سَبَّاقُون إلى أمر الله عز وجل بما يأمرهم، لا يعصونه ما أمرهم، ويفعلون ما يُؤْمَرُون؛ لقوتهم وقدرتهم على فِعْل أوامر الله عز وجل.
﴿وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا﴾ أيضًا الملائكة تسبح بأمر الله، أي: تُسْرِع فيه كما يُسْرِع السابح في الماء، وكما قال تعالى عن الشمس والقمر والليل والنهار: ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [الأنبياء ٣٣]، فالمعنى أنها تسبح بأمر الله عز وجل على حسب ما أراد الله سبحانه وتعالى، وهم -أي الملائكة- أقوى من الجن، والجن أقوى من البشر، انظر إلى قوله تعالى عن سليمان: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ [النمل ٣٨-٤٠] يعني: إذا مددت طرفك ثم رجعته، فقبل أن يرجع إليك آتيك به، ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ﴾ [النمل ٤٠] في الحال رآه، ﴿قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾ [النمل ٤٠]، قال العلماء: إنه حَمَلَتْهُ الملائكة حتى جاءت به إلى سليمان، من أين؟ من اليمن، وسليمان بالشام، بلحظة، فدل هذا على أن قوة الملائكة أكبر بكثير من قوة الجن، وقوة الجن أكبر من بني آدم؛ لأنه لا يستطيع أحد من بني آدم أن يأتي بعرش ملكة سبأ من اليمن إلى الشمال قبل مدة طويلة.
الحاصل أن الملائكة تَسْبَح بأمر الله عز وجل بما يأمرها به.
﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾ أيضًا وصْف للملائكة تُدَبِّر الأمر، وهو واحد الأمور، يعني: أمور الله عز وجل لها ملائكة تُدَبِّرُها، ولننظر جبرائيل مُوَكَّل بالوحي يتلقاه من الله وينزل به على الرسل، إسرافيل مُوَكَّل بنفخ الصور الذي يكون عند يوم القيامة، ينفخ في الصور فيفزع الناس ويموتون، ثم ينفخ فيه أخرى فيُبْعَثُون، وهو أيضًا من حَمَلَةِ العرش، ميكائيل مُوَكَّل بالقَطْر والنبات -بالمطر والنبات- ملك الموت مُوَكَّل بالأرواح، مالك مُوَكَّل بالنار، رضوان مُوَكَّل بالجنة، عن اليمين وعن الشمال قعيد مُوَكَّل بالأعمال، كلٌّ يُدَبِّر ما أمره الله عز وجل به، ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾.
إذن هذه الأوصاف كلها لمن؟ هذه الأوصاف للملائكة على حسب أعمالهم، وأَقْسَمَ الله سبحانه وتعالى بالملائكة؛ لأنهم من خير المخلوقات، ولا يُقْسِم الله سبحانه وتعالى بشيء إلا وله شأن عظيم؛ إما في ذاته، وإما لكونه من آيات الله عز وجل.
ثم قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ﴾ [النازعات ٦، ٧]، هذه ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ﴾ متعلِّقة بمحذوف، والتقدير: اذكر يا محمد وذَكِّر الناس بهذا اليوم العظيم، ﴿تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ﴾، وهما النفختان في الصور؛ النفخة الأولى: ترجف الناس ويفزعون، ثم يموتون عن آخرهم إلا مَن شاء الله، والنفخة الثانية: يُبْعَثُون من قبورهم، يقوم الناس من قبورهم مرة واحدة، قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ﴾ [النازعات ١٣، ١٤].
إذا رجفت الراجفة وتبعتها الرادفة انقسم الناس إلى قسمين: ﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (٨) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ﴾ [النازعات ٨، ٩]، وهذه قلوب الكفار، ﴿وَاجِفَةٌ﴾ أي: خائفة خوفًا شديدًا.
﴿أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ﴾ يعني: ذليلة، لا تكاد تُحْدِق أو تنظر بقوة، ولكنه قد غُضَّت أبصارهم -والعياذ بالله- لذلِّهم، قال الله تعالى: ﴿وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ [الشورى ٤٥].
نسأل الله تعالى أن يتولانا وإياكم في الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا ممن نجوا في ذلك اليوم من عذاب الله، وأن يجعلنا من أوليائه المتقين وحزبه المفلحين إنه جواد كريم.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["وَٱلنَّـٰزِعَـٰتِ غَرۡقࣰا","وَٱلنَّـٰشِطَـٰتِ نَشۡطࣰا","وَٱلسَّـٰبِحَـٰتِ سَبۡحࣰا","فَٱلسَّـٰبِقَـٰتِ سَبۡقࣰا","فَٱلۡمُدَبِّرَ ٰتِ أَمۡرࣰا","یَوۡمَ تَرۡجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ","تَتۡبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ","قُلُوبࣱ یَوۡمَىِٕذࣲ وَاجِفَةٌ","أَبۡصَـٰرُهَا خَـٰشِعَةࣱ"],"ayah":"وَٱلنَّـٰشِطَـٰتِ نَشۡطࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق