الباحث القرآني

نتمم ما نحن سائرون فيه من التفسير، وقد تكلمنا على قوله تعالى في سورة النبأ عن الطاغين، وأن جهنم كانت مآبهم، وأنهم لابثون فيها أحقابًا، ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (٢٤) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا﴾ [النبأ ٢٤، ٢٥]. تكلمنا على قوله: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا﴾، وقلنا: إن الله سبحانه وتعالى نفى عنهم البرد الذي تبرد به ظواهر أبدانهم، والشراب الذي تبرد به أجوافهم. ثم قال تعالى: ﴿إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا﴾، وهذا الاستثناء منقطع عند النحويين؛ لأن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، والمعنى: ليس لهم إلا هذا الحميم، وهو الماء الحار المنتهي في الحرارة، إلى ما ذكرناه سابقًا بأنهم ﴿يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ﴾ [الكهف ٢٩]، ﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾ [محمد ١٥]. ﴿وَغَسَّاقًا﴾ قال المفسرون: إن الغسّاق هو شراب مُنْتِن الرائحة شديد البرودة، فيُجْمَع لهم -والعياذ بالله- بين الماء الحار الشديد الحرارة، والماء البارد الشديد البرودة؛ ليذوقوا العذاب من الناحيتين: من ناحية الحرارة، ومن ناحية البرودة، بل إن بعض أهل التفسير قالوا: إن المراد بالغسّاق صديد أهل النار، وما يخرج من أجوافهم من النتن والعَرَق وغير ذلك. وعلى كل حال فالآية الكريمة تدل على أنهم لا يذوقون إلا هذا الشراب الذي يُقَطِّع أمعاءهم من حرارته، ويفطِّر أكبادهم من برودته، نسأل الله العافية، وإذا اجتمعت هذه الأنواع من العذاب كان ذلك زيادة في إضعاف العذاب عليهم. ثم قال تعالى: ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ [النبأ ٢٦]، أي: يُجْزَوْنَ بذلك جزاءً موافقًا لأعمالهم من غير أن يُظْلَمُوا، قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [يونس ٤٤]، فهذا الجزاء موافق مطابق لأعمالهم. ثم بَيَّنَ وجه الموافقة، أي: موافقة هذا العذاب للأعمال فقال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا﴾ [النبأ ٢٧، ٢٨]، فذكر انحرافهم في العقيدة وانحرافهم في القول. ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا﴾ أي: لا يُؤَمّلُون أن يحاسبوا، بل ينكرون الحساب، ينكرون البعث، يقولون: ﴿مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ [الجاثية ٢٤]، فلا يَرْجُون حسابًا يحاسَبُون به؛ لأنهم ينكرون ذلك، هذه عقيدة قلوبهم. أما ألسنتهم فيُكَذِّبُون، يقولون: هذا كذب، هذا سحر، هذا جنون، وما أشبه ذلك، كما تقرؤون في كتاب الله ما يصف به هؤلاء المكذِّبُون رسلَ الله، كما قال عز وجل: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ [الذاريات ٥٢]. وقال الله تعالى عن المكذِّبين لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ [ص ٤]، وقالوا: إنه شاعر: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ [الطور ٣٠]، ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [الحجر ٦، ٧]. ولولا أن الله ثَبَّتَ أقدام الرسل وصبَّرهم على قومهم ما صبروا على هذا الأمر، ثم إن قومهم المكذِّبِين لهم لم يقتصروا على هذا، بل آذوهم بالفعل كما فعلوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام من الأذية العظيمة، بل آذوهم بحمل السلاح عليهم، فمن كانت هذه حاله فجزاؤه جهنم جزاءً موافقًا مطابقًا لعمله، كما في هذه الآية الكريمة: ﴿جَزَاءً وِفَاقًا (٢٦) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا﴾. ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا﴾ [النبأ ٢٩]، ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾ يشمل ما يفعله الله عز وجل من الخلق والتدبير في الكون، ويشمل ما يعمله العباد من أقوال وأفعال، ويشمل كل صغير وكبير، ﴿كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا﴾ أي: ضبطناه بالإحصاء الدقيق الذي لا يختلف. ﴿كِتَابًا﴾ يعني: كَتْبًا، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الله تعالى كتب مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة[[أخرج أبو داود (٤٧٠٠) بسنده عن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: يا بني، إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله ﷺ، يقول: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة». ]]، ومن جملة ذلك أعمال بني آدم فإنها مكتوبة، بل كل قول يُكْتَب، قال الله تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق ١٨]، ﴿رَقِيبٌ﴾ يعني: مراقب، والعتيد يعني: الحاضر. ودخل رجل على الإمام أحمد رحمه الله وهو مريض يئن من مرضه، فقال له: يا أبا عبد الله إن طاووسًا -وهو أحد التابعين المشهورين- يقول: إن أَنِينَ المريض يُكْتَب، فتوقَّف رحمه الله عن الأنين خوفًا من أن يُكْتَب عليه أنين مرضه، فكيف بأقوال لساننا التي لا حدّ لها ولا ممسك لها، ألفاظ تترى طول الليل والنهار ولا نحسب لها الحساب -نسأل الله أن يعاملنا وإياكم بعفوه-. كل شيء يُكْتَب، حتى الهم يُكْتَب إما لك وإما عليك، مَن هَمَّ بالسيئة فلم يعملها عاجزًا عنها فإنها تُكْتَب عليه، وإن هَمَّ بها وتركها لله فإنها تُكْتَب له، فلا يضيع شيء، ﴿كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا﴾. ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا﴾ [النبأ ٣٠]، هذا الأمر للإهانة والتوبيخ، يعني: يقال لأهل النار: ذُوقُوا العذاب إهانةً وتوبيخًا فلن نزيدكم إلا عذابًا، ولن نُخَفِّف عنكم، بل ولا نُبْقِيكم على ما أنتم عليه، لا نزيدكم إلا عذابًا في قوته ومدته ونوعه، وقد قرأتم في آية أخرى أنهم يقولون لخزنة جهنم: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ﴾ [غافر ٤٩]، تأمل هذه الكلمة من عدة أوجه؛ أولًا: أنهم لم يسألوا الله سبحانه وتعالى، وإنما طلبوا من خزنة جهنم أن يدعوا لهم، لماذا؟ لأن الله قال لهم: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون ١٠٨]، فرأوا أنفسهم أنهم ليسوا أهلًا لأن يسألوا الله ويدعوه، بل بواسطة. ثم قالوا: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ﴾ ولم يقولوا: ادعوا ربنا؛ لأن وجوههم وقلوبهم لا تستطيع أن تتحدث أو أن تتكلم بإضافة ربوبية الله لهم، أي: بأن يقولوا: ربنا، عندهم من العار والخزي ما يَرَوْنَ أنهم ليسوا أهلًا لأن تضاف ربوبية الله إليهم، بل قالوا: ﴿رَبَّكُمْ﴾. ثم انظروا أنهم لم يقولوا: يرفع عنا العذاب، قالوا: ﴿يُخَفِّفْ﴾؛ لأنهم آيِسُون -نعوذ بالله-، آيِسُون من أن يُرْفَع عنهم. ثم انظروا أيضًا هل قالوا: يخفف عنا العذاب دائمًا؟ قالوا: ﴿يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ﴾، يومًا واحدًا، يتبين لكم إذا تصورتم هذه الحال ما هم عليه من العذاب والهوان والذل، ﴿وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ [الشورى ٤٥]، أعاذنا الله وإياكم منها. ذكر الله عز وجل ما للمتقين من النعيم؛ لأن القرآن مثاني إذا ذُكِرَ فيه العقاب ذُكِرَ فيه الثواب، وإذا ذُكِرَ الثواب ذُكِرَ العقاب، وإذا ذُكِرَ أهل الخير ذُكِرَ أهل الشر، وإذا ذُكِرَ الحق ذُكِرَ الباطل، مثاني، حتى يكون سير الإنسان إلى ربه بين الخوف وأيش؟ والرجاء؛ لأنه إن غَلَبَ عليه الرجاء وقع في الأمن من مكر الله، وإن غلب عليه الخوف وقع في القنوط من رحمة الله، وكلاهما من كبائر الذنوب، كلاهما شر، لا الأمن من مكر الله، ولا القنوط من رحمة الله، لذلك تجدون القرآن يأتي بهذا وبهذا، ولئلا تَمَلَّ النفوس من ذِكْر حال واحدة والإسهاب فيها دون ما يقابلها، وهذا من بلاغة القرآن الكريم. ونقف إلى هذا الحد، ونسأل الله تعالى أن يجعله لقاءً مباركًا نافعًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب