الباحث القرآني

نبتدئ هذه الجلسة بالحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، فبلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. رأيت أن نستفتح جلساتنا بشيء من تفسير القرآن الكريم، وليكن ذلك من سورة النبأ؛ لأن هذه السور كثيرًا ما تُقْرَأ في الصلوات المغرب والعشاء، فنبدأ أولًا بسورة النبأ. قال الله عز وجل: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ﴾، يعني: عَمَّ يتساءل هؤلاء، ثم أجاب الله عز وجل هذا السؤال، فقال: ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ﴾ [النبأ ١ - ٣]، وهذا النبأ هو ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من البينات والهدى، ولا سيما ما جاء به من الأخبار عن اليوم الآخر والبعث والجزاء. وقد اختلف الناس في هذا النبأ الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فمنهم مَن آمن به وصدَّق، ومنهم مَن كفر به وكذَّب، فبيَّن الله أن هؤلاء الذين كذَّبوا سيعلمون، سيعلمون ما كذَّبوا به عِلْمَ اليقين، وذلك إذا رأوا يوم القيامة، ﴿يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف ٥٣]، ولهذا قال هنا: ﴿كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾ [النبأ ٤، ٥]، والجملة الثانية توكيدٌ للأولى من حيث المعنى، وإن كانت ليست توكيدًا باعتبار اصطلاح النحويين؛ لأنه فُصِل بينها وبين التي قبلها بحرف العطف، والتوكيد لا يُفصَل بينه وبين مؤكَّده بشيء من الحروف. والمراد بالعلم الذي توعَّدَهم الله به هو علم اليقين الذي يشاهدونه على حسب ما أُخْبِرُوا به، ثم بيَّن الله تعالى نِعَمَه على عباده ليقرِّر هذه النعم فيلزمهم شكرها، فقال: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (٦) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (٧) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (٨) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾ [النبأ ٦ - ٩] إلى آخره. فالأرض جعلها الله تعالى مِهادًا مُمَهَّدَة للخلق، ليست بالصلبة التي لا يستطيعون حرثها، ولا المشي عليها إلا بصعوبة، وليست باللينة الرخوة التي لا ينتفعون بها، ولكنها مُمَهَّدَة لهم على حسب مصالحهم، وعلى حسب ما ينتفعون به. أما الجبال فجعلها الله تعالى أوتادًا بمنزلة الوتد للخيمة، حيث يثبتها فتثبت به، وهو أيضًا ثابت، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا﴾ [فصلت ١٠]. وهذه الأوتاد قال علماء الأرض: إن هذه الجبال بها جذور راسخة في الأرض كما يرسخ جذر الوتد بالجدار، ولذلك تجدها صلبة قوية لا تزعزعها الرياح، وهذا من تمام قدرته ونعمته. ﴿وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا﴾ أي: أصنافًا؛ ما بين ذكر وأنثى، وصغير وكبير، وأسود وأحمر، وشقي وسعيد، إلى غير ذلك مما يختلف الناس فيه، فهم أزواج مختلفون على حسب ما أراده الله عز وجل واقتضته الحكمة، ليعتبر الناس بقدرة الله تعالى، وأنه قادر على أن يجعل هذا البشر الذين خُلِقُوا من مادة واحدة ومن أبٍ واحد على هذه الأصناف المتنوعة المتباينة. ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾ [النبأ ١٠] أي: قاطعًا للتعب، فالنوم يقطع ما سبقه من التعب، ويستجدّ به الإنسان نشاطًا للمستقبل، ولذلك تجد الرجل إذا تعب ثم نام استراح وتجدَّد نشاطه، وهذا من النعمة، وهو في نفس الوقت من آيات الله، كما قال تعالى: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [الروم ٢٣]. ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا﴾ أي: جعل الله هذا الليل على الأرض بمنزلة اللباس، كأن الأرض تلبسه، ويكون جلبابًا لها، وهذا لا يعرفه تمام المعرفة إلا إذا صعد فوق ظِلّ الأرض، وقد رأينا ذلك من الآيات العجيبة، إذا صعدتَ في الطائرة وارتفعت وقد غابت الشمس عن سطح الأرض، ثم تبينت لك الشمس بعد أن ترتفع تجد الأرض وكأنما كُسِيَت بلباس أسود، لا ترى شيئًا كله سواد اللي تحتك، فيتبين بهذا قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا﴾. أما النهار فجعله معاشًا يعيش الناس فيه في طلب الرزق على حسب درجاتهم وعلى حسب أحوالهم، وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى على العباد. ولنقتصر على هذا الجزء من هذه السورة، ونسأل الله تعالى أن ينفع به، وأن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، وأن يجعلنا ممن قرأ وانتفع، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب