الباحث القرآني

وقد رأينا أننا نبدأ بتفسير جزء (عم)، وأخذنا أول سورة (عم) في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ [النبأ ١٠، ١١]. ثم قال تعالى: ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا﴾ [النبأ ١٢]، وهي السماوات السبع، وصفها الله تعالى بالشِّداد؛ لأنها قوية، كما قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات ٤٧] أي: بنيناها بقوَّة. ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (١٢) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا﴾ [النبأ ١٢، ١٣] يعني بذلك الشمس، فهي سراج مضيء، وهي أيضًا ذات حرارة عظيمة، ﴿وَهَّاجًا﴾ أي: وقَّادًا، وحرارتها كما تشاهدون في أيام الصيف حرارة شديدة مع بُعْدِها الساحق عن الأرض، فما ظنك بما يقرب منها، ثم إنها تكون في أيام الحر من شدة حرها من فَيْحِ جهنم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ»، وقال عليه الصلاة والسلام: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى اللهِ، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ» –يعني: من البرد مِنْ زَمْهَرِيرِ جَهَنَّمَ، نعوذ بالله منها-« وَأَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ»[[أخرج البخاري –واللفظ له- (٥٣٦)، ومسلم (٦١٥/ ١٨٠)، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: «إذا اشتد الحر فأَبْرِدُوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فَيْح جهنم، واشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب أكل بعضي بعضًا، فأَذِن لها بنَفَسَيْن؛ نَفَس في الشتاء ونَفَس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير».]]. ومع ذلك فإن فيها مصلحة عظيمة للخلق، فهي توفر على الخلق أموالًا عظيمة، في النهار حيث يستغني الناس بها عن إيقاد الأنوار، وكذلك الطاقة التي تُسْتَخْرَج منها تكون فيها فوائد كبيرة، وكذلك إنضاج الثمار، وغير هذا من الفوائد العديدة من هذه السراج التي جعلها الله عز وجل لعباده. ولما ذَكَرَ السراج الوهَّاج الذي به الحرارة واليبوسة ذكر ما يقابل ذلك فقال: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا﴾ [النبأ ١٤]، والماء فيه الرطوبة وفيه البرودة، وهذا الماء أيضًا تنبت به الأرض وتحيا به الأرض، فإذا انضاف إلى هذا ماء السماء، وحرارة الشمس حصل في هذا إنضاج للثمار، ونُمُوّ لها على أكمل ما يكون. ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ﴾ يعني: من السحاب، ووصفها الله بأنها معصرات كأنما تعصر هذا الماء عند نزوله عصرًا كما يُعْصَر اللبن من الضرع. وقوله: ﴿مَاءً ثَجَّاجًا﴾ أي: كثير التدفق واسعًا. ﴿لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾ [النبأ ١٥، ١٦] لنخرج بهذا الماء الذي ينزل من السماء إلى الأرض فتنبت الأرض، فيُخْرِج الله به الحب بجميع أصنافه وأنواعه من البُرّ والشعير والذرة وغيرها. ﴿وَنَبَاتًا﴾: من الثمار كالتين والعنب وما أشبهه. ﴿وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾، أي: بساتين ملتفًّا بعضها إلى بعض، من كثرتها وحُسْنِها وبهائها. ولما ذكر الله ما أنعم الله به على العباد ذكر حال اليوم الآخر، وأنه ميقات يجمع الله فيه الأولين والآخرين، وسيأتي إن شاء الله الكلام عليه في جلسة أخرى، يسَّر الله لنا ولكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعل عملنا خالصًا لله موافقًا لمرضاته. * * * آخر آية تكلمنا عليها الأسبوع الماضي هي قوله تعالى: ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (١٢) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (١٣) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا﴾ إلى آخر السورة إن تَيَسَّرَ أن نتكلم عنها اليوم. يقول الله عز وجل: ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا﴾ أي: قوية متينة، وهي السماوات السبع، وقد جاء ذِكْر السماوات مقيَّدة بالسبع في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [المؤمنون ٨٦]. أما الأَرَضُون فجاءت مقيَّدة بهذا العدد في السنة، مثل قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣١٩٨)، ومسلم (١٦١٠/ ١٣٧)، واللفظ له، عن سعيد بن زيد رضي الله عنه. ]]. وجاءت في القرآن الكريم مقيَّدة بهذا العدد على وجه الإشارة، في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾ [الطلاق ١٢]. فقوله: ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ لا يتأتى فيه إلا المماثلة في العدد؛ لأن المماثلة في الكيفية متعذِّرة؛ إذ إن هناك فرقًا بين السماوات والأرض في الكيفية والصفة والسعة والقوة، فتعيَّن أن يكون المراد مثلهن في العدد. ثم (...): ﴿فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (١٢) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا﴾، وهي هذه الشمس؛ فإنها سراج الأرض، ووهج: شديدة الحرارة، ودليل ذلك أننا نحس بحرارتها وبيننا وبينها هذه المسافة العظيمة، ولا سيما في أيام الصيف إذا كانت قريبة من الرؤوس عمودية فوقنا. ولا يخفى على أهل العلم بطبائع النبات والبحار والصحاري ما يكون من الفائدة العظيمة في هذه الحرارة على الأعيان وعلى الصفات، ولهذا أكَّد الله عز وجل ذلك بقوله: ﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا﴾ أي: ذا تَوَهُّج. ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا﴾، ﴿الْمُعْصِرَاتِ﴾ هي: السحب، وسُمِّيَت معصرات؛ لأنها بمنزلة الذي يعصر الماء من الثوب، فإن هذا الماء يتخلَّل هذا السحاب ويخرج منه كما يخرج الماء من الثوب المعصور. قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾ [الروم ٤٨]. قوله: ﴿ثَجَّاجًا﴾، أي: كثير الثَّجّ، يعني: الانهمار، وذلك لغزارته وقوته حتى يروي الأرض. ﴿لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾، الحب والنبات هو الزروع، وهو النبات الذي ليس له ساق. ﴿وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾ هي الأشجار التي لها ساق، فيخرج من هذا الماء الثجاج الزروع والنخيل والأعناب وغيرها، سواء خرج منه مباشرة، أو خرج منه بواسطة استخراج الماء من باطن الأرض؛ لأن الماء الذي في باطن الأرض هو من المطر كما قال تعالى: ﴿فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾ [الحجر ٢٢]، وقال تعالى في آية أخرى: ﴿فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ﴾ [الزمر ٢١]. وقوله: ﴿أَلْفَافًا﴾ أي: مُلْتَفَّة بعضها إلى بعض، حتى إنها لتستر مَن فيها لكثرتها، والتفاف بعضها إلى بعض.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب