الباحث القرآني

ثم قال عز وجل: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِين﴾ [الأنعام ٥٣] كذلك فتنَّا بعضهم ببعض، أي أضللنا بعضهم ببعض، ﴿لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾، يعني أن الأغنياء لا يؤمنون، فتنة، لماذا لا يؤمنون؟ يقولون: كيف يسبقنا إلى الإيمان هؤلاء! فنحن لا نؤمن. وهذه فتنة قد تقع من الإنسان، أن يقول: شيء ابتدأه فلان أنا لا أشارك فيه، مثلًا، أو شيء عمله فلان لا أعمل فيه، ولهذا قال: ﴿لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾، اللام هنا للعاقبة وليست للتعليل، المعنى: فَتَنَّا بعضهم ببعض، فقالوا: ﴿أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾، والاستفهام هنا للتحقير، مثل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا﴾ [الفرقان ٤١]. فالمعنى في قوله: ﴿أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾، الاستفهام هنا أيش؟ للتحقير، قال الله عز وجل ردًّا عليهم: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾، يعني: وقد علم أن هؤلاء يشكرون الله إذا أنعم الله عليهم، وأما أنتم فلا، فهو رد عليهم. * في هذه الآية من الفوائد: أن الله سبحانه وتعالى يفتن بعض الناس ببعض، فيضلّ بسبب الآخر، وهذا واقع، تجد مثلًا تفتح باب مساهمة في الخير، فيسبق فلان وفلان وفلان، فيقول آخرون: شيء تدخَّل فيه فلان ما نوافق ولا نبغيه، ولا يمكن يسبقوننا، واضح؟ هذا واقع، صلة الآية بالتي قبلها واضحة جدًّا؛ لأن الذين يأتون إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ويجلسون عليه فقراء، وأما الملأ فلا يجلسون؛ لأنهم يحتقرون هؤلاء، ويقولون: ﴿أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾. * ومن فوائد الآية الكريمة: إقرار الكافرين بأن الإيمان والإسلام مِنَّة من الله تعالى؛ لقولهم: ﴿أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾. * ومنها: أن أعداء المؤمنين يأتون بكل أسلوب للتنفير عن المؤمنين؛ لقولهم ﴿أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾، وهذا مشاهَد في كل شيء، الرسل عليهم الصلاة والسلام هل ذكر أعداؤهم ما يُنَفِّر عنهم من الأوصاف؟ نعم، اقرأ الآية العامة الجامعة الشاملة: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ [الذاريات ٥٢، ٥٣]. كذلك أيضًا أعداء أهل التعطيل من أهل السنة والجماعة يصفهم أهل التعطيل بأوصاف تُنَفِّر عنهم، يقولون: هذا مُجَسِّم؛ لأنه أثبت الصفات، فيقولون: هذا تجسيم، حتى ينفر الناس من هذا، وأهل الكلام يقولون: هؤلاء حَشْوِيَّة ما عندهم فهم، ولا عندهم معنى، ولا عندهم عقول، حَشْوِيَّة يعني لا خير فيهم، ويسمونهم نوابت، جمع نابتة، وهي الذي ينبت في الزرع من ذات الأوراق التي لا خير فيها. على كل حال ألقاب السوء لأهل الخير من أهل الشر لا تزال موجودة، ولكن هل يصمد صاحب الخير أمام هذه الألقاب، أو ينهزم؟ الواجب أن يثبت ولا ينهزم؛ لأنه إذا انهزم ليس انهزامًا لشخصه، بل هو انهزام للحق الذي جاء به، أو الذي كان عليه. * ومن فوائد الآية الكريمة: تقرير علم الله عز وجل في قوله: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾، أن الله عالم بِمَن هو شاكر، وهل المعنى بِمَن هو شاكر، أي: بمن هو شاكر الآن أو بمن سيشكر، أو بالجميع؟ بالجميع، ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾، (أعلم) مجرورة بالفتحة، لماذا جُرَّت بالفتحة؟ لأن الوصفية بوزن (أفعل)، ولكن نقول: وزن الفعل، يكون أعم. نقف على هذا. * طالب: (...). * الشيخ: أي مثل ذلك الذي حصل من هؤلاء الكبراء، واحتقارهم لهؤلاء الذين يحضرون مجالس النبي ﷺ، مثل ذلك الفتنة فَتَنَّا. * الطالب: (...). * الشيخ: لا ما هو على كل حال لكن كل موضع بحسبه. * الطالب: يقولون: (...) عالم. * الشيخ: هذا من جهلهم أيهما أكمل: (أعلم) أو (عالم)؟ (أعلم) اسم تفضيل، و(عالم) ليس اسم تفضيل، ما يمنع التساوي، ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى ١] يقول: سبح اسم ربك العالي؟! * طالب: ما يقولون. * الشيخ: حتى لو قالوها فهم مخطئون، ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام ١٢٤] تقول: الله عالم؟ سبحان الله! الله يصف نفسه بالأكمل، وأنتم تُنَزِّلُونه؟ فإذا قالوا: إنك إذا قلت: أعلم، فأنت قارَنت بينه وبين العالِمين الآخرين وفضَّلته عليهم، قلت: نعم، وأنتم إذا قلتم: عالِم، وصفتموه بما يوصف به الآخرون بدون تفضيل، فانظر كيف صار تحريفهم حجةً عليهم. * طالب: (...) ضابط. * الشيخ: مثل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [البروج ١٠]. * الطالب: الضابط هو السياق؟ * الشيخ: إي، السياق هو المعيِّن للمعنى، ومن ثم قلنا: إنه لا مجاز في اللغة ولا في القرآن. * طالب: (...) فيما يُستَعْمَل؟ * الشيخ: لا، المراد تقرير ما ذهب إليه هؤلاء من أننا نقول: المؤمن بصير، والكافر أعمى، هل يستوي هذا وهذا؟ ما يستويان. * الطالب: الأعمى يُفْتَن و.. * الشيخ: قلنا: شامل للأمرين حِسًّا ومعنًى. * طالب: طلب المناسبة بين الآيات؟ * الشيخ: لا بأس به، لكن رأيت بعض الناس بعض المؤلِّفين في هذا يتكلَّف كلافة عظيمة، ثم إنه لا يتأتى في بعض الأحيان، قال الله عز وجل: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة ٢٣٨، ٢٣٩]، بعدها ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ [البقرة ٢٤٠]، ما المناسبة؟ فالمهم أنه لا شك بعض الآيات واضحة المناسبة فيها، وبعض الآيات ما تعرف المناسبة، مما يجعل الإنسان يستسلم استسلامًا كاملًا لترتيب الآيات، وأنها أمر توقيفي، ما هو عقلي، وبعض الآيات تكون مقارِبة غير واضحة. * طالب: قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام ١١٧] ما المعنى؟ * الشيخ: ﴿أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ﴾، هنا ﴿أَعْلَمُ﴾ عملت عمل الفعل، بمعنى يعلم من يضل عن سبيله، اسم التفضيل عمل الآن في (مَن)، فهي مفعول به، والغالب كما هو معروف أن تتعدى بالباء أو بـ (مِن). * طالب: أحسن الله إليك يا شيخ (...). * الشيخ: لا، الخطاب هنا للنبي ﷺ، ولكن إذا خوطب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمثل هذا فغيره من باب أولى. * طالب: (...) وإن لم يكن كذلك يا شيخ، ما الحكمة يا شيخ من ذكر الوجه دائمًا في التعبير عن..؟ * الشيخ: هذا السؤال جيد، يقول: في هذه الآية دلالة على رؤية الله عز وجل؛ لقوله: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾، وهذا صحيح، يعني يصلح أن نجعلها من الأدلة على إثبات رؤية الله تبارك وتعالى؛ لأن أفضل شيء وأطيب شيء لأهل الجنة أن ينظروا إلى وجه الله عز وجل، اللهم اجعلنا ممن ينظر إليك. ولهذا يجب التنبه من بعض الأذكياء الْمُصَنِّفين، قال الزمخشري صاحب الكشاف، وهو جيد في اللغة والبيان، هو جيد في البلاغة وفي اللغة، وكل من بعده كلهم عيال عليه، يأخذون كلامه، قال في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ [آل عمران ١٨٥] فقال: أيُّ فوز أعظم من هذا؟! كلام إذا قرأته ما تجد فيه شيئًا، لكن يريد إنكار رؤية الله عز وجل؛ لأن رؤية الله أعظم من هذا الفوز، لكنه رجل ذكي، قال: أي فوز أعظم من هذا؟ نقول: أعظم من هذا أن يرى الإنسان ربه عز وجل رؤية حقيقية. * الطالب: (...). * الشيخ: التعزير؟ إذا شفع لك؟ * الطالب: أيوه. * الشيخ: نعم. * الطالب: ما حكم الشفاعة؟ * الشيخ: لا بأس، لكن لا يشفع لك عند القاضي، يشفع عند من له الحق، فيقول: يا فلان، الآن أنت تمكنت من أخذ حقك، اعف عنه، أما الحدود فلا يمكن أن يشفع فيها؛ لإنكار النبي ﷺ ذلك على أسامة، قال: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٤٧٥)، ومسلم (١٦٨٨ / ٨) من حديث عائشة.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب