الباحث القرآني

ثم قال عز وجل: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام ٥٢]، هذه الآية تحتاج إلى إعراب. فقوله: ﴿لَا تَطْرُدِ الَّذِينَ﴾، ﴿لَا﴾ ناهية، والفعل مجزوم بها، ولكنه حُرِّكَ بالكسر لالتقاء الساكنين. الثاني: قوله: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾، فيها ﴿شَيْءٍ﴾ مبتدأ، لكن دخل عليها حرف الجر الزائد، فعمل به لفظًا لا محلًّا. ولهذا نعرب ﴿مِنْ﴾ حرف جر زائد إعرابًا، و﴿شَيْءٍ﴾ مبتدأ. ﴿فَتَطْرُدَهُمْ﴾ الفاء للسببية، والفعل بعدها منصوب بها -على رأي الكوفيين-، وبـ (أن) مُضْمَرَة بعدها -على رأي البصريين- ولكن هي جواب للنهي أو للنفي؟ لأنه سبق الآن نفي ونهي، ﴿لَا تَطْرُدِ﴾ نهي، و﴿مَا عَلَيْكَ﴾ هذه نفي، هل هي جواب للنفي، أو للنهي؟ للنفي، يعني: ليس من حسابك عليهم من شيء، ولا من حسابهم عليك من شيء فتطردَهم، ليش تطردهم؟ ﴿فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ الفاء للسببية، و﴿تَكُونَ﴾ فعل مضارع منصوب بـ (أن) بعد فاء السببية، على رأي مَن؟ البصريين، أو بها -على رأي الكوفيين-، لكن جواب لأيش؟ لقوله: ﴿لَا تَطْرُدِ﴾، يعني: لا تطردهم فتكون من الظالمين. نعود إلى المعاني: ﴿لَا تَطْرُدِ﴾ الطرد معناه: الإبعاد، يعني: لا تبعدهم. ﴿الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾، ﴿يَدْعُونَ﴾ دعاء مسألة، ودعاء عبادة؛ دعاء المسألة أن يقولوا: يا ربنا اغفر، دعاء العبادة أن يقوموا بعبادة الله عز وجل من صلاة وغيرها. فإذا قال قائل: ما وجه كون العابد داعيًا؟ فالجواب: للدليل الأثري، والنظري؛ أما الأثري فقوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر ٦٠]، فجعل الله الدعاء عبادة، وأما كون العبادة دعاء فلأن العابد لو سئل: لماذا تعبد الله؟ لقال: أرجو ثواب الله وأخاف عقابه، إذن فهو دعاء بلسان الحال، لا بلسان المقال، على أن كثيرًا من العبادات لا يخلو من دعاء صريح. وقوله: ﴿بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾، الباء هنا بمعنى (في)، وتأتي الباء بمعنى (في) كثيرًا، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ﴾ [الصافات ١٣٧، ١٣٨]، يعني (في). فهل هناك من حكمة أن تأتي الباء بمعنى (في)؟ اعلم أن القرآن الكريم لا يمكن أن يعدل عن الشيء المتعارَف لغة إلّا لسبب، السبب هنا أن الباء التي للظرفية أُشْرِبَت معنى الاستيعاب؛ لأن الباء تأتي للاستيعاب، كما في قوله تعالى: ﴿امْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ [المائدة ٦]، وكما في قوله: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج ٢٩]، الباء للاستيعاب، أي أنهم قد استوعبوا الغداة والعَشِيّ بالدعاء، والغداة أول النهار، والعَشِيّ آخر النهار. وقوله عز وجل: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ حال من الفاعل في ﴿يَدْعُونَ﴾، المعنى أنهم مخلصون لله، لا يريدون بذلك رياء ولا سمعة. ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾، يعني أن حسابك ليس عليهم، وحسابهم ليس عليك، وإذا كان كذلك فلماذا تطردهم، دعهم يحضرون مجالس ينتفعون بها، وينفعون بها، ليس عليك من حسابهم من شيء، ولا من حسابك عليهم من شيء فتطردهم، هذا مبنى على قوله: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾. ﴿فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ في هذه العبارة تلطُّف في مخاطبة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، حيث لم يقل: فتكون ظالمًا، قال: ﴿مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، وهذا فيه شيء من التسلية؛ أن هناك من هو ظالم، والظالمون كثيرون، ومعلوم أن كون الإنسان مع عالَم يشاركونه في الوصف أهون من كونه ينفرد بذلك. ﴿فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ * في هذه الآية الكريمة فوائد، منها: تحريم طرد المؤمنين الصالحين. * من فوائد هذه الآية الكريمة: الثناء على أولئك القوم الذين يحضرون جلسات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما ذكر الله عز وجل أنهم يَدْعُون الله بالغداة والعشي مع الإخلاص لله عز وجل. * ومن فوائدها: إثبات وجه الله عز وجل؛ ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾، والوجه صفة لله عز وجل، صفة حقيقية يجب علينا أن نؤمن بذلك، ولكن على حد قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى ١١]، وأما من فسر ذلك بأن المراد بالوجه الثواب فقد أخطأ؛ لأن ذلك مخالف لظاهر اللفظ، ومخالف لإجماع السلف، ثم إن الله عز وجل قال في القرآن الكريم: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (٢٦) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ﴾ [الرحمن ٢٦، ٢٧]، جعله وصفًا للوجه. فهل يمكن أن يقول قائل: إن الثواب موصوف بأنه ذو الجلال والإكرام؟ الجواب: لا، وتأمل هذا مع قوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن ٧٨]، فجعلها بالجر صفة لـ (رب)، ولم تكن بالرفع صفة للاسم، مع أن أسماء الله عز وجل لها من الجلالة والتعظيم ما لها، ولكن نسأل الله العافية، ﴿مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ [النور ٤٠]. وسبحان الله! ما أدري ماذا يلاقي الإنسان ربه يوم القيامة إذا كان الله تعالى قد قال: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾، وقال: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾، وما أشبه ذلك من الآيات، ثم يقول: لا وجه لك يا رب، بل المراد بوجهك الثواب، ما أدري كيف يستطيع الإنسان أن يجيب الله عز وجل. والمسألة ليست جدلًا دنيويًّا ومغالبة دنيوية، المسألة عقيدة يجب على الإنسان أن يتهيأ للجواب عنها يوم القيامة، الإنسان قد يتخلص بالدنيا بالمجادلة والمغالبة، لكن عند الله لا ينفعه، كما قال عز وجل: ﴿هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [النساء ١٠٩]. هؤلاء نقول: أنتم إذا غَلَبتم في الجدل في الدنيا لكن هل تغلبون الله عز وجل يوم القيامة؟ لا، والله ما يغلبونه، المسألة خطيرة، وفي ظني أن هؤلاء المحرِّفين لمثل هذه الآيات أنهم عند تلاوتها وتحريفها ينسون أنهم سيقابلون الله عز وجل، وإلا لو كانوا على ذكرٍ ما ذهبوا يحرِّفون الكلم عن مواضعه في أعظم الأشياء، إذا كانت آيات الأحكام وأحاديث الأحكام تُجْرَى على ظاهرها، وهي أحكام للعقل فيها مجال، فكيف لا تُجْرَى هذه الأخبار العظيمة على ظاهرها، وهي تتعلق بمن؟ بالله عز وجل. * ومن فوائد هذه الآية: أن كل إنسان لا يحاسَب عن الآخر؛ ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾، وهذا العموم مقيَّد بما إذا لم يفرِّط الإنسان في حق أخيه، فإن فرَّط جُوزِي على ذلك، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: يجب على الإنسان إذا رأى نائمًا وقد ضاق الوقت عن الصلاة يجب أن يُعْلِمه، أن يوقظه، مع أن النائم معذور ليس عليه إثم، لكن أنت أيها اليقظان يجب أن تُعْلِمه، توقظه وتُعْلِمه، لو لم تفعل صار عليك من حسابه، لكن الواحد في الحقيقة من حسابه، والواقع أنه من حسابك أنت؛ لأنك تركت الواجب. وكذلك قال العلماء: يجب على من رأى شخصًا يريد أن يتوضأ بماء نجس، يجب عليه أيش؟ أن يُعْلِمه، ويجب على من رأى في ثوب أخيه بقعة نجسة أن ينبهه عليها؛ لقول الله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة ٢]. * ومن فوائد هذه الآية: كمال عدل الله عز وجل؛ لأنه خاطب نبيَّه بهذا الخطاب القوي من أجل قومٍ من أصحابه، هو -أي النبي ﷺ- عند الله أعظم جاهًا وأعلى منزلة، لكن الله عز وجل حكمٌ عدْلٌ، يقضي بالحق سبحانه وتعالى. * ومن فوائد هذه الآية: أن منْع الإنسان حقَّه ظلم، وإن لم يكن عدوان، يعني بضرب أو أخْذ مال، لكن إذا منعه حقَّه فإنه ظالم؛ لقوله: ﴿فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، وهذا حق، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٢٨٨)، ومسلم (١٥٦٤ / ٣٣) من حديث أبي هريرة.]]، مع أن هذا لم يأكل من مال الفقير مثلًا، لكن مماطلته، يعني منع حقه، فكل مَن منَع صاحب حقٍّ حقَّه فهو ظالم له، كما لو اعتدى بأخذ شيء من ماله.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب