الباحث القرآني

قال عز وجل: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام ٤٧] يعني: أخبروني، وسبق القول في إعراب هذه الجملة، ﴿إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ﴾ أي: عقوبة الله، ﴿بَغْتَةً﴾ كما لو أتتكم وأنتم نيام، ﴿أَوْ جَهْرَةً﴾ كما لو أتتكم وأنتم أيقاظ، وهذا كقوله تعالى: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾ [الأعراف ٩٧، ٩٨]، الأول ﴿بَغْتَةً﴾، والثاني ﴿جَهْرَةً﴾. ﴿بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ﴾ يعني: إن أتتكم فهل أنتم مظلومون إذا أتاكم عذاب الله؟ على الوجهين الجواب: لا، فالجملة في قوله: ﴿هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ﴾ تقرير لأخذ العذاب، وأنهم لم يؤخذوا ظلمًا بل لعملهم السيء. * في هذه الآية: تحذير من نزول العذاب؛ إما بغتة، وإما جهرة، فلا يأمن الإنسان إذا كان عاصيًا أن ينزل به العذاب، ولكن أتظنون أن العذاب هو عقوبة الجسد؟ لا، عقوبة الجسد لا شك أنها عذاب، لكن أكبر من ذلك الإعراضُ عن دين الله عز وجل، كما قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ [المائدة ٤٩]؛ ولهذا قال العلماء رحمهم الله: إن المعاصي بريد الكفر ينزلها الإنسان مرحلةً مرحلةً، كما ينزل البريد المسافة مرحلةً مرحلةً، حتى يصل إلى الكفر، والعياذ بالله، ووجه ذلك ظاهر؛ لأن المعاصي تقسي القلب وتسود القلب وتوبس القلب حتى يصبح ميتًا وتحل الكارثة، ولكن -الحمد لله- جعل الله لكل داء دواء، المعصية قارنها بالتوبة، وإذا تبت فالتوبة تهدم ما قبلها تكون كأنك لم تذنب، ولله الحمد. بل إن الإنسان إذا تاب إلى الله توبة نصوحًا ربما تكون حاله بعد التوبة أكمل من حاله قبل المعصية، انظر إلى قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (١٢١) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾ [طه ١٢١، ١٢٢]، فارتفعت منزلته حين تاب من المعصية، وهذا شيء مشاهد؛ لأن الإنسان إذا بقي مستمرًا على حاله في طاعة الله بقي قلبه لا يتحرك يفعل الأشياء هذه وكأنها غريزة، إذا أذنب خجل من الله عز وجل واستحيى من الله وأخبت إلى الله تبارك وتعالى، وصار يتذكر هذا الذنب في كل لحظة؛ ولهذا قال بعض السلف: إن المعصية بالنسبة للفاسق كذباب وقع على أنفه فطرده؛ يعني: خفيفة عنده، وأما أهل القلوب الحية فالمعصية كأنها جبل يستثقلها ويخاف منها حتى يتوب إلى الله تبارك وتعالى. قوله: ﴿هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ﴾ استفهام بمعنى النفي، فـ(هل) بمعنى (ما)، وقد ذكرنا -فيما سبق- أن الاستفهام إذا كان بمعنى النفي صار أشد من النفي المجرد؛ لأنه يتضمن النفي والتحدي، كأن المتكلم يقول للمخاطب: أثبت لي هذا الشيء، فيكون الاستفهام بمعنى النفي أشد من النفي المجرد. ﴿هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ﴾ الظلم ينقسم إلى قسمين: ظلم في حق الله، وظلم في حق العباد، أما الظلم في حق الله فدواؤه التوبة مهما عظم حتى لو كان شركًا بالله تبارك وتعالى، بل حتى لو كان سبًّا لله على القول الراجح فإنه يجوز التوبة، حق الآدمي لا يزول إلا برده إليه أو استحلاله منه، وإلا مهما كان الإنسان إذا تاب وأخلص لله وندم فإنه لا يكفيه حتى يرد، بل إن رد المظالم لأهلها من شروط التوبة؛ لأن من شروط التوبة: أن يقلع الإنسان عن الذنب، ولا إقلاع عن الذنب مع استمرار أخذ مال الغير.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب